الصفحة الرئيسة @ المقال الشهري @ أساس النهضة الحضارية


معلومات
تاريخ الإضافة: 1/3/1436
عدد القراء: 4774
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

مقال شهر ربيع الأول 1436هـ

أساس النهضة الحضارية

          الحمد لله ، والصلاة والسلام على نبيِّنا وسيِّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وأما بعد .. فقد ذكر مالك بن نبي – رحمه الله – أن عناصر الحضارة ثلاثة : الإنسان بما يحمله في طبيعته من الإرادات والقدرات ، والأرض بما أُودع فيها من الخيرات والبركات ، والوقت بما يستوعبه من الأعمال والمجهودات ، فهذه العناصر الثلاثة أسس قيام الحضارة الإنسانية ، التي يشترك فيها عموم الناس ، عبر تاريخ البشر منذ القديم ، فإذا اجتمعت هذه العناصر الثلاثة ، وتفاعلت فيما بينها : أثمرت - بإذن الله تعالى- ونال أهلها من ثمارها الحضاريَّة ما يقدِّر الله تعالى لهم من ذلك ، فقلَّما تخفق نتائج تفاعلات هذه العناصر في التقدِّم الحضاري لأمة من الأمم ، حين يبذل أهلها ما بوسعهم من الجهود : فكراً ، ومادة ، ووقتاً ، كما قال الله تعالى : ( كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا ) (17/20) .

         وإلى هذا الحدِّ يشترك البشر جميعاً في التمتُّع بنتائج الحضارة وملذاتها ، فلن تُوصد دونهم خزائن الأرض والسماء ، ماداموا يحترمون شروط النهضة الحضاريَّة ، ويأخذون بأسبابها المنطقيَّة ، ويدفعون تكاليفها مهما كانت مضنية .

           ولئن كان أهل التوحيد في كلِّ زمان ، يشتركون مع باقي البشر في ضرورة التعاطي الجاد مع هذه العناصر الحضارية الثلاثة ، فإنهم يفترقون عنهم بفارق جذري وضروري ، وبُعْدٍ إنسانيٍّ آخر ، هو الأسُّ لهذه العناصر الحضاريَّة الثلاثة ، والقاعدة الأصيلة والوحيدة لها ، وهو الوحي الذي به تحيا الأمم الحياة الطيبة ، فتجمع بكفاءة بين خيري الدنيا والآخرة وسعادتهما : (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا...) (42/52) ، فتضمن الحضارة بالوحي أمرين ، لا غنى للحضارة الحقيقيَّة عنهما مطلقاً :

         الأمر الأول : هو الكمال الحضاري بمعناه الشامل ، الذي يتناول الحضارة بكلِّ جوانبها وتفصيلاتها ، بحيث تُصبغ بطابع الكمال ، فتبدو متناسقة متوازنة متكاملة ، لا تناقض فيها ولا تعارض ، بحيث يجد الإنسان فيها حاجاته كلَّها : الماديَّة منها والروحيَّة ، فهو كما ينمو جسدياً ، وعقلياً ، ولغوياً .. فإنه ينمو أيضاً روحيًّا ونفسيًّا ، فما يجده غذاءً وافراً لبدنه وعقله ، يجد مثله لروحه ونفسه ، فلا تعارض بين الروح والجسد ، ولا بين المعنويَّة والماديَّة ، فقد أحكمت السياسة الحضارية أبعادها كلَّها ، وتوازنت بعدل في توزيع اهتماماتها ورعاياتها .

         الأمر الثاني : هو الاستمرار الحضاري ، بدوام البقاء وعدم الانقطاع : (...لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ...) (14/7) ، وهو الحلم الإنساني القديم المتجدِّد ، والأمل الفطري العميق المتجذر : (...هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى ) (20/120) ، فما زال أمل الخلود هاجس بشري متنامي ، يراود الإنسان ويعاوده ، ومازال المتحضِّرون يتنادون بالبقاء والدوام : ( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ) (18/35) ، ومع كلِّ ما أوتوه من معالم الحضارة الماديَّة وعناصرها القويَّة : (...مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً...) (41/15) ، وما بلغوه من أسباب التمكين العلميَّة والمعرفيَّة : (...إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي...) (28/78) ، مع كلِّ هذا زالت حضاراتهم بكلِّ ما تحويه من التقدُّم ، وذهبت دولهم بكلِّ ما ملكت من القوة ، حين أعرضوا عن الوحي ، الذي يحمل معه أسباب البقاء والدوام : ( فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا...) (29/40) ، فما بقي من كلِّ تلك الإنجازات الحضاريَّة الكبرى إلا أطلال تذكِّر بهم ، وآثار تخبر عنهم : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا...) (27/52) .

        إن الوحي الرباني المبارك ليس شرطاً لقيام حضارة ما ، ولكنه شرط أساس في كمالها واتساقها ، وفي بقائها واستمرارها ، فمازال الأنين الإنساني يدوِّي في جنبات حضارات اليوم ، يستنكر ظلمها وقسوتها ، ومازال معه الضمير الإنساني - هو الآخر – ينذر بالأفول والاضمحلال ، فلا أمل في السعادة ، ولا أمنية في البقاء .

         لقد تنادى العقلاء ، من كلِّ جنس ودين ، منذ بداية القرن العشرين ، بأن الحضارة الماديَّة المعاصرة لا تناسب الإنسان ، حتى وإن لبَّت العديد من مطالبه ، وحقَّقت الكثير من أحلامه ، إلا أنها قاصرة عن تلبيتها جميعاً ، فأنى لها أن تشبع روحه التوَّاقة إلى العبادة ، أو أن تريح ضميره المنشغل بالمصير ، فما تزال الأسئلة الثلاثة الملحَّة : ( من أين جئت ؟ ولماذا جئت ؟ وأين أذهب ؟ ) ترافق الإنسان في مسيره في الحياة الدنيا ودروبها ، لا تتركه من إلحاحها على الجواب ، فما أن يفرغ من مشاغله ، أو يفيق من لهوه ولعبه : حتى ترجع إليه التساؤلات الثلاثة من جديد ، كأقوى ما كانت : تعكِّر مزاجه ، وتقلق منامه ، وتضني فؤاده ، فلا يجد لها في نفسه أجوبة شافية كافية ، فضلاً أن يجد لها في ثقافته العكِرة ما يسكِّن روعه ، ويريح نفسه ، ويقنع عقله .

         إن أفقر الفقراء هو الشخص الذي لا يجد وثيقة الهداية الربانية الصادقة ، التي تحيا بها الأرواح ، وتصلح بها النفوس ، وتعمر بها الدنيا كأحسن ما تكون ، وليس هو الشخص الذي لا يجد القوت لقيام صلبه ، ولا يجد الكساء لستر عورته ، فماذا تراه يُصلح البدن إذا فسدت الروح ، وتخرَّبت النفس ؟

         إن النهضة الحضاريَّة بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن تقوم كاملة مستمرَّة إلا على ما أنهض الجيل الأول وحضَّره ، فنواقض الحضارة المعاصرة لا يكمِّلها الكذب ، ولا يجمِّلها الزخرف ، ولا يسوِّقها الخداع ، فإن النفس البشريَّة فقيرة إلى ربها ، مدينة له سبحانه بكلِّ شيء ، لا غنى لها دون رحمته : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) (21/107) .

          إن القرآن الكريم هو روح الحضارة ومنطلقها وأساسها ، يحمل للإنسان الحياة لروحه وعقله ونفسه وبدنه ، فلا يمكنه أن يجد كلَّ ذلك مكتملاً في غيره ، فقد عاش العرب دهراً من قبله ، فما صنعوا شيئاً ذا بال ، حتى إذا نزل فيهم القرآن فدانوا مؤمنين به ، وأذعنوا منقادين له ، فما لبثوا على ذلك طويلاً حتى قطفوا ثمار القرآن في نفوسهم وأرواحهم ، وفي عقولهم وسلوكهم ، فأتوا بالعجائب الحضاريَّة ، مما لا تعرفه الأمم الجاهلية ولا تدركه ، فجمعوا بكفاءة وتفوُّق بين الماديَّة والروحيَّة ، وبين العقيدة والسلوك ، في كيان مجتمعي واحد ، قد تناغمت اتجاهاته ، واتحدت أهدافه ، وتطابقت مفاهيمه .

          لقد استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبني الجيل الأول بناء محكماً شاملاً ، كأنهم الجسد الواحد ، رغم اختلاف أصولهم وألوانهم وطبقاتهم ، فبقي نفوذ التراب وأثره محصوراً في الهيئات والأشكال من معالم الوراثة ، مما لا يد لأحد في تغييره أو تبديله ، أما العقول والنفوس والأرواح ، فكانت مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصناعته التي أتقنها بإذن ربه عزَّ وجلَّ ، فصاغ نماذج بشريَّة فريدة من عرب الحاضرة والبادية ، لم يعرف لهم التاريخ مثيلاً في جملتهم ، كأنهم النجوم الزاهرة ، والكواكب النيِّرة ، قد انتثرت بين الناس : ( أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ...) (6/122) .

         إن هذا الإنجاز النبويٍّ الكبير في بناء إنسان الحضارة : لا يمكن أن يحصل بغير هدي القرآن ، ولا يمكن للحضارة أن تقوم مكتملة ومستمرة بغيره ، وهذا وعد رباني لا يتخلَّف : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا...) (20/124) ، فإمَّا الحضارة القرآنيَّة ، وإما الضنك بكلِّ ما يحمله من معاني الضيق والشدَّة والشقاء ، مما يعتري المعرضين عن هدي القرآن ، رغم ما يحوطهم - في بعض الأحيان - من مظاهر التوسُّع والترف والمتعة ، ومع ذلك يعيشون الضيق والشدَّة ، تحوط النفوس ، وتحاصر الأرواح ، وتُثقل الضمائر .