الصفحة الرئيسة @ المقال الشهري @ التوازن والتكامل والشمول في بناء الشخصيَّة الإسلاميَّة


معلومات
تاريخ الإضافة: 1/11/1435
عدد القراء: 9456
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

مقال شهر ذي القعدة 1435هـ

التوازن والتكامل والشمول في بناء الشخصيَّة الإسلاميَّة

          الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد ..فإن رعاية الحيوان لا تكلِّف أكثر من العناية بالجانب الجسمي منه ؛ في اكتمال نوع غذائه ، وسلامته الصحيَّة من الآفات المضرَّة والمهلكة ، حتى يبلغ الحيوان كماله الطبيعي ، ليصبح جاهزاً للانتفاع منه .

           في حين أن العناية الجسميَّة في حق الإنسان – رغم أهميَّتها - لا تعدو أن تكون جانباً من جوانب رعايته التربوية ، وجزءاً من أجزاء بناء شخصيَّته الإنسانيَّة ؛ فالجوانب : الروحيَّة ، والإيمانيَّة ، والأخلاقيَّة ، والاجتماعيَّة ، والعقليَّة ، والنفسيَّة وغيرها ، كلُّ جانب من هذه الجوانب يحمل خاصيَّة النمو ، تماماً كما يحملها الجانب الجسمي ، فينمو بالتربية ويزدهر ، كما أنه يضعف بالإهمال وينضمر ؛ فلو قدِّر لإنسان أن يحظى برعاية جسميَّة فائقة ، حتى اكتملت أركان بنائه البدني ، وبلغ القمَّة في الصحَّة الجسميَّة ، في الوقت الذي حُرم فيه من التربية العقليَّة ، فأهمل بناؤه الفكري ، حتى قبع في مرحلته الأولى ، فإن المحصِّلة النهائيَّة لهذا البناء الشخصي الشاذ عبارة عن قوى بدنيَّة غير عاقلة ، تشابه الثور في قوته ، وهشاشته في اهتماماته ، ومثل هذه الشخصيَّة لا تصلح لمهمَّة الخلافة في الأرض ، ولا تتأهَّل لحمل تكاليف الأمانة الربانيَّة .

           وكذلك حال من رُوعيَ بناء جانبه العقلي ، حتى بلغ القمَّة في ذلك ، في الوقت الذي أهمل جانبه الأخلاقي ، فبقي متعثراً في بداياته الطفوليَّة ، فإنه حينئذٍ يصبح ثعلباً في صورة إنسان ، يسلك مسالكه الماكرة لبلوغ مراداته ، قد تبلَّدت مشاعره ، وتعطَّلت أحاسيسه ، فلم يعد لضميره صوت يسمع ، وهذا لا شكَّ قصور في بناء الشخصيَّة الإنسانيَّة ، حينما تخرِّج المراوغين والمخادعين ، ممن لم يحظوا بكفايتهم التربويَّة من البناء الخلقي .

         وغنيٌّ عن الوصف حجم التدمير والفتك بالشخصيَّة الإنسانيَّة ، التي لم تنشأ في ظلِّ الإيمان الصادق الصحيح ، بأبعاده العقديَّة ، وتطلُّعاته الروحيَّة ، وممارساته التعبُّديَّة ، فعاشت مغيَّبة عن حظِّها الواجب من التربية الإيمانيَّة الضروريَّة لبناء الشخصيَّة الإنسانيَّة السويَّة ؛ فإنه لا يتصوَّر بحال أن يحيا الإنسان بأمان واستقرار دون أن يتشرَّب الإيمان بأركانه الستة الأساسيَّة ، التي تُعد القاعدة والأساس لبناء الشخصيَّة الإنسانيَّة .

          إن وصف التوازن والتكامل والشمول في بناء شخصيَّة الإنسان لا يمكن أن يحظى بها الفرد حتى ينال كفايته التربويَّة من جميع جوانب الشخصيَّة ، فتنمو متكاملة ومتوازنة ، قد ضربت بسهم وافر من التربية : الإيمانية ، والأخلاقية ، والعقلية ، والنفسية ... ، فإذا عجزت عن المعالي من كلِّ ذلك : فلا يفوتها الحد الأدنى - على الأقل - من كلِّ جانب من هذه الجوانب ؛ فأصول الإيمان العقديَّة وضروريَّاتها لابدَّ منها لبقاء المكلَّف ضمن دائرة الإسلام ، وكفُّ الشر لابدَّ منه كأصل مبدئي للأخلاق ، والعلوم والمعارف الأوليَّة لابدَّ منهما للتربية العقليَّة ، والاتزان الشخصي لابدَّ منه كأساس للصحة النفسية ، وهكذا كلُّ الجوانب : لابدَّ أن يجد كلُّ جانب منها موضعاً له في ساحة الشخصيَّة ولو بالحدِّ الأدنى ، فيسهم في توازنها وبناء تكاملها .

         ولا ينبغي استهجان الحديث عن الحدِّ الأدنى أو التقليل من شأنه ؛ فإن الشرع الحنيف يحترم مثاقيل الذر من المعتقدات الصحيحة والسلوكيَّات القويمة ، فلا يعزب عن الله تعالى من ذلك شيء ، وهي مرتبة المقتصد الناجي يوم القيامة ، الذي أتمَّ الفروض الواجبة ، وتأخَّر عن الأعمال المستحبَّة ، وفي حديث الأعرابي الذي حلف أمام النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يزيد على الفروض ، فقال : ( أفلح إن صدق ) .

          غير أن الاستكثار من الصالحات ، والتزوُّد من المستحبَّات ، مما استحسنته الشريعة وأحبَّته في غير عزيمة : يبقى هو الأفضل والأكمل بعد الفروض والواجبات ، فهو نهج عباد الله الصاحين ، وطريق أوليائه المتقين ، وهي وظيفة العمر بأكمله ؛ فما يزال المؤمن يستزيد من : درجات الإيمان ، ومعارج الروح ، ومراتب الأخلاق ، ومدارك الفهم ، ونحوها من جوانب التربية الإسلاميَّة ، فيرتقي بذاته في مسالكها الحميدة ، ويرتفع بشخصه في آفاقها العليَّة ، مجاهداً في ذلك أهواء النفس ، ومكافحاً شهوات الجسد ، حتى يبلغ مرتبة المحبَّة الإلهيَّة ، التي تضفي على شخصه الصبغة الربَّانيَّة ، التي تضبط سلوكه ، وتحفظ جوارحه ، وفق مراد الله تعالى في شرعه المنزَّل .

           إن نمو جوانب الشخصيَّة وفق مفهوم الإسلام التربوي لا يقتصر على مرحلة الطفولة ، ولا ينحصر بمرحلة الشباب ، بل هو نهج عام لكلِّ مراحل العمر ، يتناول الإنسان بأكمله : ذاتاً وزمناً ؛ فلا يُتصوَّر أن يستغني الإنسان – في أي مرحلة من مراحل عمره – عن حاجته إلى النمو الإيماني ؛ لأنه يزيد وينقص ، ولا يكتفي بالقليل من النمو الأخلاقي ؛ لأنه الأثقل في الميزان بعد الإيمان ، ولا يستنكف عن الاستزادة من النمو المعرفي ؛ لأن فوق كلِّ ذي علم عليم ، ولا يمتنع عن الصحَّة البدنيَّة ؛ لأن المسلم القوي خير وأفضل من المسلم الضعيف ، وهكذا كلُّ جوانب الشخصيَّة الإنسانية : لا يُكتفى بشيء منها ما دام أن فوقها ما هو أحسن منها ، وهذا باب واسع للتنافس البشري : (...وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ) .

          وإن من أعظم محفِّزات هذا التنافس أنه يشمل الدنيا والآخرة في وقت واحد ، فالبعد الدنيوي العاجل لا ينفصم عن البعد الأخروي الآجل ؛ إذ ليس في مفاهيم الإسلام عمل يتمحَّض للدنيا دون الآخرة ، أو يخلص للآخرة دون الدنيا ، فإن التداخل بين البعدين الدنيوي والأخروي في دين الإسلام ، والتماهي بينهما يبلغ أقصى مدىً يمكن تصوُّره ؛ لأن الرسالة المحمديَّة الخاتمة جاءت بمفهوم شامل للعبادة ، يستوعب كلَّ نشاط الإنسان وحركته ؛ فالصناعات ، والتجارات ، والخدمات ونحوها ، مما تعتبر أنشطة دنيوية في ظاهرها : هي في الشرع الإسلامي فروض كفايات ، تدخل بقوَّة ضمن مفهوم العبادة الشامل ، مما يلحق الإنسان ثوابها وعظيم أجرها ، بل إن ملذات الدنيا وشهواتها ، مما أباحه الله تعالى : تستظل هي الأخرى بمظلَّة العبادة ، فتدخل ضمن نطاقها الواسع ، فالحلال من الطعام ، والحسن من الثياب ، واللطيف من الترفيه : يدخل كلُّ ذلك في مفهوم العبادة ، وأعجب من هذا أن يشمل أجر العبادة نشاط المسلم الجنسي ، فيكون في البضع أجر وثواب .

          وهذه مفاهيم شاملة لمعنى العبادة في الإسلام ، تتناول الشخصيَّة الإنسانيَّة بكلِّ جوانبها ، وتستوعب الإنسان في كلِّ مراحله ، وتجمع البعدين الدنيوي والأخروي في عمل واحد ، فهذه المفاهيم الراقية هي فرائد إسلاميَّة سامية ، تعجز عن أمثالها الأديان الأخرى ، ويقْصر عن أشباهها الفكر الوضعي .