الصفحة الرئيسة @ المقال الشهري @ اختيار التخصُّص العلمي بين الميل والإتقان
مقال شهر رجب 1435هـ
اختيار التخصُّص العلمي
بين الميل والإتقان
الحمد لله الذي علَّم بالقلم ، علَّم الإنسان ما لم يعلم ، والصلاة والسلام على المعلِّم الأكبر ، والسيد الأعظم ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد .. فقد كانت المعرفة الإنسانية كتلة واحدة عبر تاريخ الإنسان العلمي ؛ فقد كان العالِم أو الفيلسوف موسوعي المعرفة ، يحيط علماً بغالب معارف عصره ، فقد يكون مبرِّزاً في تخصُّص أو أكثر ، ومع ذلك يضرب بأسهم وافرة في باقي العلوم ، وربما جمع بعضهم بكفاءة بين بعض العلوم النظرية والتطبيقية ، كما بدا ذلك واضحاً لدى طوائف كبيرة من المتقدِّمين من علماء الأمة الإسلامية ؛ فقد كان جلُّهم شرعيين ، ومع ذلك كان بعضهم يضمُّ إلى علمه الشرعي معارف تطبيقية من العلوم الكونية والطبية ، فلم يكن مستغرباً في تلك العصور وجود : الطبيب ، والمهندس ، والكيميائي ، والفلكي ونحوهم ، ممن تبحَّر في بعض العلوم الشرعية .
وعلى هذه الطبيعة الموسوعيَّة عاش الناس قروناً متطاولة من الزمان ، حتى إذا أخذت البشرية تطعن في السن ، وتقرب شيئاً فشيئاً من العصور الحديثة ، وأخذت العلوم – هي الأخرى - في النمو والاتساع والتشعُّب ، حينها بدأت أنواع العلوم في التبلور والاستقلال ؛ فبدت لكل علم منها معالم تميِّزه عن العلوم الأخرى ، وقامت الحواجز الفاصلة تُنصب بين المعارف ، وأخذت الحدود المميِّزة تُشيَّد بينها : فانفردت العلوم ضمن تخصُّصات مستقلَّة ، ومن ثمَّ اصطفَّ العلماء في قوائم تحت هذه التخصُّصات ، وقد انعزلوا ضمن مسارات علمية محدَّدة ، وانفردوا ضمن قنوات معرفيَّة مقنَّنة .
ولئن كان مسار التخصُّص العلمي قد سار ببطء عبر العصور الإنسانية السابقة ، فقد أخذ يهرول في العصور المتأخرة ، وينطلق مسرعاً نحو التشرذم والتشظِّي ، ليبلغ ذروته في العصر الحديث ، بتشعُّب المعرفة الإنسانية وتنوُّعها ، ضمن قوائم كبيرة ومتجدِّدة من العلوم والمعارف الكثيرة .
ونظرة سريعة على تصنيفات العلوم في المكتبة الحديثة تعطي دلالة واضحة على حجم الاتساع المعرفي ، وتعدُّد التقسيمات العلمية التي بلغتها البشرية في عصرها الحديث ، حتى إن المجال العلمي الواحد يضمُّ تحته قائمة من التخصُّصات العلميَّة المستقلَّة ، التي تشترك فيما بينها بأشياء تجمعها ، وتنفرد كلٌّ منها مستقلَّة بأشياء أخرى تميِّزها ، سواء في العلوم النظريَّة أو التطبيقيَّة أو الطبيَّة .
ورغم الإيجابيات الكثيرة لهذا الواقع العلمي الحديث ، إلا أنه يُنذر بأفول عصر الإنسان الموسوعي الملمِّ بعلوم عصره ، وظهور عصر الإنسان المتخصِّص ، المحدود بجزئيَّة علميَّة من معارف وقته ، فأصبح الإنسان المتخصِّص في هذا العصر عالماً من جهة ، وأميًّا من جهة أخرى ، وقلَّ ما يوجد من بين المتخصِّصين المعاصرين من يجمع بكفاءة بين تخصُّصين في وقت واحد ، فضلاً عن أن يوجد من بينهم من يلمُّ بعلوم عصره كلِّها في وقت واحد .
ومن هنا كان لا بد لطلبة العلم من القرارات الحكيمة في اختيار التخصُّص العلمي ، بين الميول الشخصيَّة والرغبات الذاتيَّة ، وبين الإجادة والإتقان ، والتفوُّق والإحسان ؛ فإن قصر الزمن ، وطبيعة العصر ، وواقع النظم التعليميَّة والإدارية : لا يسمح للمبدع – في الغالب – بأكثر من تخصُّص علمي واحد ، فضلاً عن أن يسمح بذلك لمن دونه من متوسِّطي الأداء العلمي .
وفي ظلِّ هذا الظرف الواقعي يقع بعض الطلاب في حيرة عند اختيار التخصُّص العلمي : بين ميولهم العلمية ومتعتهم الشخصيَّة ، وبين مجال إتقانهم وتفوُّقهم ؛ فكثيراً ما يتنازع الطالب هذان الأمران : الميل والإتقان ؛ فاختيار تخصُّص الميل يشعر معه الطالب بالمتعة النفسيَّة ، واللذة العلميَّة ، وسهولة الأداء ، واختيار تخصُّص الإتقان يشعر معه الطالب بالجهد والإجهاد ، والتعب والإرهاق .
إن أزمة التردُّد بين الميل والإتقان عند اختيار التخصُّص تنتهي ، ويصبح الحديث عنها بلا معنى ، حين يطابق الميلُ الإتقان ؛ فيكون تخصُّص الميل هو تخصُّص الإتقان ، وهذا – لا شكَّ – هو الأبلغ والأحسن في الأداء العلمي ، غير أن مثل هذا التطابق الموفَّق لا يتأتى لكثير من طلاب العلم ، فما تزال الحيرة بين الميل والإتقان تسيطر على كثير منهم ، ومعاناة صراع التردد بينهما قائمة .
إن من الحقائق الواقعيَّة التي تُسجَّل في هذا المقام : أنه ليس كلُّ متقنٍ لتخصُّصه محبًّا له ، وليس كلُّ محبٍّ لتخصُّصه متقن له ؛ فقد تفوَّق أشخاص في تخصُّصات علميَّة لا يميلون إليها ، كما أخفق آخرون في تخصُّصات علميَّة يحبونها ، فمحكُّ التفوُّق الإتقان وليس الميل ؛ إذ الميل أداة الاجتياز ، أما الإتقان فهو أداة التفوُّق ؛ بمعنى أن مجرَّد ميل الطالب إلى تخصُّص ما يعينه – بإذن الله تعالى – على اجتياز متطلَّباته ، ولكنَّه قد لا يمكِّنه من التفوُّق فيه ، في حين أن الإتقان المجرَّد عن الميل كافٍّ لتحقيق التفوُّق ، فإذا قدِّر اجتماعهما معاً في شخص طالب علم : كان عطاؤه حينئذٍ أكمل وأفضل .
إن واقع الأمة الإسلامية المعاصر ، ومأزقها الحضاري القائم ، وطبيعة الحياة العلمية الحديثة : لا يسمح لطلاب العلم المسلمين بالمراهقات العلميَّة ، ولا بالمجازفات التخصُّصيَّة ؛ فإن ما نزل بالأمة من حجم التخلُّف ، وما ترتب عليه من مآسي أخلاقية واجتماعية واقتصادية وسياسية لا مزيد عليه ، ففي هذا الظرف الصعب : لا بد من سلامة النظر ، وحسن الاختيار ، وسداد القرار ، وما لم يُتقن طلاب العلم والقائمون على مؤسسات التعليم مهارات اختيار التخصُّص العلمي ، بما يكفل – قدر المستطاع – تطابق الميل والإتقان ، وحسن الترجيح بينهما ؛ فإن مزيداً من التخلُّف وصعوبات الحياة هو مصير الأمة الإسلاميَّة ، وعندها يتحمَّل الجميع – قدر ذنوبهم – تبعات أزمات الأمة الحضارية ومعاناتها .