الصفحة الرئيسة @ المقالات التربوية @ التربية العقلية للفتاة @ 78- الطبيعة المنزلية في نظام تعليم الفتاة
78- الطبيعة المنزلية في نظام تعليم الفتاة
ويُقصد بنظام التعليم المنزلي : ذلك النظام التعليمي الذي يُراعي طبيعة أسلوب الحياة الاجتماعية في الإسلام، من حيث الفصل بين الجنسين، وتوجيه الفتيات إلى الاهتمام بالبيت والذرية، فيعمل هذا النظام على تقديم المعرفة بكل فعالياتها التربوية إلى الفتاة في منزلها، دون الحاجة إلى تكليفها الحضور إلى المؤسسات التعليمية التقليدية ؛ حتى تتمكن من القيام بدورها الاجتماعي والأسري، ولا يفوتها – في الوقت نفسه – تحصيل المعرفة في أعلى درجاتها، وذلك بناءً على التصور الآتي :
أ – نظام تعليم يمنع الاختلاط بين الجنسين في أسلوب تلقي العلم عن المشايخ وأسلوب أدائه للطلاب :
ينطلق تعليم الفتاة من منزلها مستهدفاً أمرين : الأول : الاقتداء بنهج السلف في أسلوب تعليمهم للفتيات، والأمر الثاني : المحافظة على الفتاة من مفاسد الاختلاط المتوقعـة في المؤسسات التعليمية الحديثة ؛ فقد ثبت
بما لا يدع مجالاً للشك أن تعليم الفتيات كان منفصلاً تماماً عن
تعليم الفتيان منذ عهد النبوة وإلى زمن قريب، فمع وجود شيء من المــدارس والكتاتيب الخاصـة بالفتيـات : فقد كان جُلُّ تعليمهنَّ ينطلـــق من المنازل، فلا علاقــة للفتــيات بالمدارس العامة، التي غلب عليها
الذكور، سواء كان ذلك في طلب العلم، أو أدائه؛ لكون الطالب كان مرتبطاً بالشيخ برباط وثيق، بحيث تطول بينهما الصحبة , وربما التصق به، حتى يكون الأقرب إلى مجلسه، ومثل هذا الوضع لا يناسب النساء، لاسيما وأن الطلاب - في الغالب- يرابطون مع المشايخ في سكنات خاصة داخل المدارس؛ بغرض التربية والتهذيب، والتفرغ للعلم، وكل هذا محظور على النساء، ولاسيما الشابات منهن.
ويمكن فيما يلي بيان مسألتي طلب العلم وأدائه في حياة المرأة المسلمة في التراث الإسلامي، وذلك على النحو الآتي :
1 – أسلوب تلقي نساء السلف العلم عن المشايخ :
كان طلب نساء السلف العلم يتم - في الغالب- عن طريق المنزل بطرق متعددة:
منها : ما يُنقل من العلوم عن طريق جو الأسرة العلمي العام؛ فإن كثيراً من العائلات في المجتمع المسلم كانت متفوقة في بعض العلوم، فما إن يشيع علم في أسرة منها إلا تلقَّفه أعضاؤها من الذكور والإناث، حتى العلوم الطبية، وربما ورثت إحداهن عن أبيها كتباً علمية انتفعت بها، وتعلمت منها .
ومنها : ما تنقله الفتيات من العلوم عن طريق محارمهن من الرجال : كالأب، والجد، والعم , والزوج، فإن غالب الرجال الذين أخذ عنهم النساء العلم في الزمن الأول كانوا من محارمهن، فقد كانت الأسرة المسلمة – في كثير من الأحيان – مؤسسة تعليمية كاملة، ومما يشير إلى هذا المعنى ما ذكره السمعاني عن أم شَمَاسَةَ النيسابورية، حيث يقول : "سمعت منها، ومن أبيها، وزوجها، وإخوتها، وأقربائها، عن قريب من عشرين نفساً " .
ومنها : ما أخذته الفتيات عن نساء زمانهن الفضليات، من القريبات أو غيرهن؛ فقد كانت بعض النساء يتفرَّغن لأخواتهن يعلمنهن الخير، في البيوت أو في دور خاصة بهن، حتى إن غالب ما نقلته التابعيات من مرويات الكتب الستة – دواوين الإسلام – كان عن طريق أخواتهن من الصحابيات رضي الله عنهن .
ومنها : ما يقوم به بعض المحارم من إحضار بناتهم وزوجاتهم إلى مجالس العلماء، فيُسمعوهنَّ العلم، ويسمعون معهن، ويشاركون في الخير.
ومنها: ما كان عن طريق جلب المؤدِّبين إلى البيوت لتعليم البنات والجواري تحت إشراف الأسرة ؛ حتى لا يختلطن بالأولاد في الكتاتيب، فهذه أم الحسن، فاطمة (ت 731هـ) بنت علم الدين، أبي محمد البرزالي، سمعت من أكثر من مائة وخمسـين عالماً، قال أبوها عن حالهــا : " تزوجت نحو خمس سنين، ولم تخرج من البيت" .
لقد أثبت أسلوب التعليم المنزلي غير المختلط جدواه، وفائدته العلمية العظيمة؛ فقد خرَّج أعداداً من النساء العالمات الفضليات ممن برزن في كثير من العلوم والمعارف، وأولهن السيدة عائشة رضي الله عنها، فقد بلغت ما بلغت من علو المكانة العلمية عن طريق المنزل، فهي المأمورة به شرعاً، وكذلك العالمة الفاضلة الكاتبة فخر النساء، شهدة (ت 574هـ)، بنت أبي نصر، أحمد الدينوري التي انطلقت في تعلُّمها من البيت وعمرها ثماني سنوات، حتى أصبحت مسندة أهل العراق، وهذه أيضاً العابدة الزاهدة فاطمة (ت573هـ) ، بنت نصر العطار البغدادية، التي يقول عنها أخوها :
" إنها ما خرجت من البيت في عمرها إلا ثلاث مرات "، ويقول الحافظ الضياء عن زوجته العالمة آسية (ت633هـ) ، بنت الشهاب محمد بن خلف بن راجح :" كانت عندي أربعين سنة وثلاثة أشهر ، لم تدخل حمَّاماً، ولا دخلت المدينة ، وكنت أخذتها بذلك فأطاعتني، وكانت تؤثرني على نفسها، وقد سُمع عليها بالإجازة عن جماعة"، وكذلك الشيخة فاطمة الزهراء بنت محمد الإدريسي، حفظت القرآن، وجمعاً من الكتب في الحديث والفقه، وبعض العلوم الأخرى، ولم تبرح منزلها ، فلم يمنع هؤلاء الفضليات أن كنَّ مرتبطات بالبيوت أن يتعلَّمن العلم ، ويبلِّغنه للطلاب.
2 – أسلوب أداء نساء السلف العلم للطلاب :
هذا الوصف المتقدم لأسلوب أخذ الفتيات – والنساء عموماً – العلم في الزمن الأول: يعطي صورة واضحة عن نهج التعليم المنزلي الذي سلكه نساء السلف، أما أداؤهن هذا العلم، فما كان ليخرج عن النهج نفسه الذي سلكْنه في زمن الطَّلب، فقد كان غالب أدائهن العلم في البيوت أيضاً منذ عصر الصحابة، والتابعين، وما بعده من الأزمنة إلى عهد قريب، حتى إن بعضهن كنَّ يكتبن الفتوى العلمية، ويوقِّعن عليها، ثم تصدر من بيوتهن إلى السائلين عن طريق محارمهن، وربما ألقت إحداهن الدرس من وراء حجاب، كل ذلك يتم في غاية السِّتر والأدب، بعيداً عن الخلطة المشينة، والتبرج، والبروز .
وقد أشكل على بعض الباحثين المعاصرين استيعاب هذا المنهج في أسلوب أخذ الرجال عن النساء في المنازل، ومن وراء حجاب، حتى أضافوا على النصوص المحكمة الوجيزة، المنقولة من كتب السلف إضافات من تصوراتهم ومشاعرهم الخاصة، تفيد بروز النساء للرجال في حلق كبيرة عظيمة، يحاضرن الجماهير في المساجد ودور العلم، تماماً كما يفعل الفقهاء من الرجال، وربما زعم بعضهم : تخففهن من الحجاب، وجلوسهن على كراسٍ في رؤوس الحلق، التي حفَّها الرجال والنساء من كل جانب، في هيئات لا تتناسب مع طبيعة الحياة الاجتماعية المحافظة في ذلك الزمن .
وعند التَّحقُّق من هذه النصوص، والرجوع بها إلى مصادرها الأصلية، لا يجد الباحث شيئاً من هذه المبالغات الخيالية، التي أضافها هؤلاء الباحثون خطأ منهم، بسبب التقليد، أو الاعتماد على مراجع ثانوية أو أجنبية غير أصلية، إلا نصّاً واحداً – في حد علم الباحث – يُفيد جلوس التابعية أم الدرداء الصغرى – رحمها الله – للطلاب في حلقة علم بجامع دمشق زمن خلافة عبد الملك بن مروان، وعند التحقق من الموقف اتَّضح أنها كانت من القواعد من النساء، حتى إنها كانت تتوكأ على عبد الملك حتى يأتي بها صُفَّة النساء، بعد أن تجالسه في مؤخرة المسجد، ومع كل هذا فقد كانت في غاية السِّتر والحجاب، تتكلَّف ذلك تكلُّفاً، رغم أنها كانت معذورة لكبر
السن .
وكذلك التابعية حفصة بنت سيرين – رحمها الله – كانت تتكلَّف النِّقاب إذا دخل عليها الرجال في بيتها للعلم ، رغم أنها كانت – هي
الأخرى – من القواعد من النساء، وهكذا كان نهج نساء السلف رضي الله عنهن .
ومن شواهد التاريخ الإسلامي على صحة هذا التوجه: استنكار التابعي الجليل هشام بن عروة بن الزبير– رضي الله عنهم – على ابن إسحاق، لما بلغه أنه يروي عن زوجته فاطمة بنت المنذر، حيث حلف قائلاً : " تَحدَّث ابن إسحاق عن امرأتي فاطمة بنت المنذر، والله إن رآها قط"، ثم قال الذهبي معلِّقاً على هذا الخبر: "هشام صادق في يمينه، فما رآها، ولا زعم الرجل أنه رآها، بل ذكر أنها حدَّثته، وقد سمعنا من عدة نســوة وما رأيتهن "، فابن إسحاق سمع من فاطمـة، وأخذ عنها، إلا أنه – مع
ذلك – لم يرها، فقد كان الستر مُسْبلاً بينهما، وهذا النوع من السماع مقبول عند العلماء، لا قدح فيه، ولا مطعن عليه، وهو النهج الذي سلكه من أخذ العلم من الصحابة والتابعين عن الســيدة عائشة – رضي الله عنها – في العصر الأول.
ومن الشواهد أيضاً على صحة هذا المذهب عند السلف قول ابن حجر في ترجمة شيخته رقية ( ت 830هـ ) بنت الشيخ شرف الدين محمد، حيث يقول : " فلما كان في سنة سبع وعشرين، حضرت عندهم في محاكمة، فرأيتها تامة القامة، مستوية العقل، وذكر لي أهلي أنه لم يظهر عليها الكبر، وأن أكثر ما يمكن أن يكون سنها ما بين الستين والسبعين، فتوقفت في الرواية عنها لذلك "، يعني أنها كانت مستترة تماماً، فما عرف سنَّها إلا من جهة أهله .
وقد ذكر السخاوي أيضاً في أخبار شيخاته أشياء منها قوله في إحداهن ممن ازدحم عليها الطلاب : " كنت ممن حمل عنها قديماً أشياء قليلة استغناء عنها، خصوصاً وقد كانت على نمط كثير من العجائز في عدم التحجُّب ونحوه، ثم حسن حالها، وقرأت عليها سائر ما وقفت عليه"، ولما ذكر براعة خديجة بنت علي بن عمر الأنصاريــة في الكتابة، واستخلاص الخطــوط قـال: " حسبما أخبرني به ولدها " .
وأما في مسألة الإجازة العلمية، حين يأخذها الرجل عن المرأة ، فيقول ابن حجر في ترجمة مَلَكَة ( ت 802هـ ) بنت الشرف عبد الله المقدسية :
" أجازت لي، ولم يتَّفق لي لقاؤها " ، وكذلك قول زكي الدين
عبد العظيم المنذري عن بعض من أخذ عنهن الإجازة العلمية، حيث يقول عن أمة العزيز نهاية بنت أبي المواهب المقرئ: "حدَّثت، ولنا منها إجازة، كتبت بها إلينا من بغداد "، وقال في حديثه عن خديجة بنت أبي طاهر السلفي الأصبهانية الأصل، المتوفاة بالإسكندرية : " لم أسمع منها، ولنا منها إجازة "، وقال عن أخرى : " لنا منها إجازة، كُتبت لنا عنها من بغداد"، ثم ذكر أخريات من نيسابور، ودمشق، وهمذان، كلُّهن كتبن له إجازات علمية دون لقاء مباشر، فهذا الأسلوب في الحصول على الإجازة العلمية دون لقاء كان أمراً معروفاً عند المحدثين من السلف منذ القديم، لا يشترطون اللقاء المباشر بين الطالب والشيخ، وهي نوع من أنواع التحمل عندهم، يكفي فيها الإذن مشافهة، أو كتابة عن بعد، لا يُشترط لها القراءة المباشرة من كل طالب على الشيخ، بل لو قرأ أحدهم في المجلس، بحضور الشيخ، والبقية يسمعون: كانت قراءة للجميع، ولو أتى الطالب بنسخة مكتوبة مثل نسخة الشيخ فأجازه فيها: صحت الإجازة، وحتى كتب المشيخات، التي يذكر فيها المؤلف شيوخه الذين أخذ عنهم العلم: لا يُشترط لها – هي الأخرى – اللقاء المباشر، فليس كل من ذكرهم المؤلف يكون قد التقى بهم .
وبناء على ما تقدم تتضح صورة أخذ الرجال العلم عن النسـاء، فالمسألة لا تتعدى كونها إجازة علمية عن بعد، دون لقاء ، أو احتكاك مباشر، ولو حصل شيء من اللقيا كان على نهج ما وصفه أبو عبدالله السَّبتي – رحمه الله- في قراءته على أم الخير فاطمة البطائحي، حين قدمت إلى الحجاز للحج والزيارة، فقرأ عليها بالمدينة المنورة عند الحجرة النبوية، فقال :" قلت : أخبرك – رضي الله عنك – الحسين بن المبارك بن محمد الزبيدي، بسماعك عليه ؟ فأشارت أن: نعم " .
لقد كانت طبيعة حياة السلف الأولى واضحة المعالم في قيام عالم للرجال وآخر للنساء، وكان الاختلاط بينهما يحصل في أضيق الحدود، دون شعور بالمذمة أو التشدد؛ لكونها الحياة الطبيعية للمجتمع المسلم في ذلك الوقت، كما تناقلها الخلف عن السلف.
ولقد كان حرص التربويين من رجال الســلف شـــديداً في مســـائل الفصـــل بين الجنسين، خاصــة في تولي تعليم الذكور للإناث ؛ لكون النساء عورة، والشريعة مليئة بالنصوص التي تفيد بلزومهن بيوتهن، والكف عن الخروج إلا لحاجة، فإذا احتجن إلى العلم خارج البيوت اجتمعن في المساجد مع شيخاتهن في حلق علمية منفصلة تماماً عن حلق الرجال، كما كُنَّ يجتمعن في صُفَّة النساء زمن النبي r، أو ربما تفرَّغ العالم لهن خاصة يحدِّثهن على حدة، بعيداً عن الاختلاط بالرجال، فإذا قامت الحاجة للجمع بين الرجال والنساء عند أحد الشيوخ، في حلقة علمية واحدة، أو أراد الرجال الأخذ عن النساء كان الحجاب السَّاتر يفصل بين الفريقين، يقول ابن الحاج في الإخبار عن مسائل تلقي العلم بين الذكور والإناث: "مضى فعل السلف على أن زوجة العالم تبلغ عنه أحكام الشرع للنساء عموماً، ولبعض الرجال خصوصاً من وراء حجاب، كما هو معلوم في مخاطبة النساء للرجال.
ومن هنا فليس هناك بروز في المجالس المختلطة، أو محاضرات جماهيرية عامة، كما وصف بعض الباحثين المعاصرين، بل إن هذا مما تُذمُّ به المرأة الصالحة، فضلاً عن العالمة الفاضلة التقية، يقول القاضي أبو بكر بن الطيب : " إن المرأة لا يتأتَّى منها أن تبرز إلى المجالس، ولا تخالط الرجال، ولا تفاوضهم مفاوضة النظير للنظير ؛ لأنها إن كانت فتاة حَرُمَ النظر إليها وكلامها، وإن كانت متجالَّة بَرْزَة: لم يجمعها والرجال مجلسٌ تزدحمُ فيه معهم، وتكون منظرة لهم، ولم يفلح قط من تصوَّر هذا، ولا من اعتقده"، بل إن بعض السلف ذهب إلى أبعد من هذا فقد استنكر ابن تيمية على الفقيهة فاطمة (ت 714هـ) بنت عباس بن أبي الفتح مجرد صعودها المنبر لوعظ النساء، فضلاً عن أن تبرز للرجال وتخالطهم.
ب – نظام تعليم يفصل بين الطلاب والطالبات في دور العلم :
بعد الحديث عن أسلوبي تلقي وأداء نساء السلف العلم: يتوجه الحديث هنا إلى منهج السلف في الفصل بين الطلاب والطالبات من الجنسين في دور تلقي العلم ؛ لما فيه من المصلحة العامة والخاصة، فقد أثبت الواقع المحلي والعالمي صحة مذهب السلف ورجحانه على مذهب بعض المعاصرين في مسألة ضرورة الفصل التام والكامل بين الجنسين في دور العلم، حتى إن بعض الدول الغربية المعاصرة بعد مضي مائة عام تقريباً من بداية تجربة الاختلاط في التعليم: تتوجَّه بعض مؤسساتها التعليمية – بطريقة غريبة – نحو هذا المذهب الإسلامي، وتشجع عليه، وتُنشئ بالفعل مئات المؤسسات التعليمية غير المختلطة من: جامعات، وكليات، ومعاهد، ومدارس، يرجعون إلى ما كانوا عليه في بداية القرن العشرين الميلادي ؛ فقد كان في الولايات المتحدة الأمريكية (330) معهداً، منها (127) معهداً غير مختلط، وفي فرنسا عام 1886م كان التعليم الابتدائي يفصل بين الجنسين.
لقد انطلقوا حديثاً نحو هذا المذهب المحافظ مندفعين بمآسي واقعهم المُرِّ، وما خلَّفه من المفاسد الأخلاقية الكثيرة، وتدهور المستوى العلمي عند كثير من التلاميذ، إضافة إلى الحرج داخل الفصل الدراسي، الذي يحدثه الاختلاط بين الجنسين، إلى جانب أن المنهج في نظام التعليم المختلط يركِّز على المعلومات المشتركة بين الجنسين، ولا يراعي خصوصية كل جنس، وحاجاته العلمية الخاصة، وفي الجانب الآخر فقد أثبت نظام التعليم غير المختلط نجاحه وتفوقه، والتجربة السعوديـــة الحديثة شاهـــدة على ذلك، بل وبعـض التجــارب الغربيـــة الحديثة في: أمريكا، وبريطانيــا، وألمانيا، والســويد، هي الأخرى تشهد بنجاح هذا النظام المحافظ.
وأما مذهب الاختلاط في المراحل التعليمية الدنيا فلا يصح أيضاً على مذهب التربويين من السلف ؛ فإن البلوغ المبكر قد يحصل للفتاة في سن الثامنة، وقد يحصل للفتى في سن العاشرة، خاصة بعد أن تناقص في هذا الزمن سن البلوغ عند الجنسين، فهؤلاء الشباب هم أخطر ما يكون على الفتيات، خاصة وأنهم لفرط الشهوة في هذا السن، كثيراً ما يقعون في الفواحش، حتى إن بعض الدراسات أثبتت أنهم من أكثر المترددين على دور البغاء، إلى جانب أن الجنوح عند المنحرفين منهم يزداد في هذا العمر .
وعلى فرض تأخُّر سن البلوغ فإن النشاط الجنسي عند الأطفال من الجنسين يبدأ قبل البلوغ بأعوام ؛ فإن القدرة على الجماع، وحصول شيء من الاستمتاع الشهواني تسبق القدرة على التناسل، وحكم اختلاط الصبي المراهق المقارب للحلم بالفتاة البالغة كحكم اختلاط الكبير البالغ بها عند جمع من العلماء، والرخصة إنما جاءت في حق الطفل الذي لم يُقارب البلوغ، ولم يعرف بعدُ من أحوال النساء شيئاً.
ثم إن الغالب في المدارس الابتدائية المختلطة تولي النساء مهمة التربية والتعليم، وهذا فيه ضرر على الصبيان؛ فإن الصبي قبل بلوغه في حاجة إلى نماذج سلوكية من نفس جنسه ليقتدي بها، ويسلك على نهجها؛ ليتعلم خصوصيات جنسه، ويتدرب على سلوك الرجال ؛ لكونه صائراً إليه، وهو – في الوقت نفسه – محتاج إلى التنفير من المسلك المخالف للرجولة، الموجب للعنة التشبه، فكيف – والحالة هذه – تقدم للصبي نماذج سلوكية أنثوية، ثم يطالب – بعد ذلك – بالتزام السلوك الموافق لجنسه؟
وفي الجانب الآخر فإن الفتاة صغيرة كانت أم كبيرة، بالغة أم مراهقة: لا يُؤمن عليها – في أي مكان أو زمان – من كبير عاقل، ولا من صبي مراهق قد قارب الحلم، حتى في دور العلم التي يغلب على الظن انضباطها الخلقي ؛ فوقائع الانحرافات الخلقية المسجلة في هذا المجال لا تكاد تُحصى، حتى إن النيابة في إحدى البلاد العربية أصدرت عام 1980م بياناً توجيهيًّا لأعضائها تقول فيه : "يجب على أعضاء النيابة أن يبادروا بتحقيق جرائم الاعتداء على أعراض التلاميذ والتلميذات التي يُتهم فيها المدرسون، وأن يباشروا التحقيق فيها بدقة وعناية، وبغير تهاون في اتخاذ الإجراءات التحفظية ضد الأشخاص مرتكبيها، ومتابعة القضايا الخاصة بها أمام القضاء، والطعن فيما يصدر فيها من أحكام مخالفة للقانون" .
إن من الضروري أن يدرك المربون أن نظام الإسلام التربوي في تعامله مع المفاسد الأخلاقية الكبرى لا يترك المتربي حتى يقف عند حدودها ؛ بل يأخذ بيده بعيداً عنها بمراحل حتى ما تخطر له ببال، ويُقيم بينه وبينها من حواجز صغار المحرمات والمكروهات ما يحول بينه وبين الوقوع فيها .
ومن هنا فإن خلاصة القول في حلِّ هذه المشكلة الاجتماعية التعليمية أن يعود نظام التعليم المنزلي لواقع الحياة الإسلامية المعاصرة، وأن تُتخذ الوسائل العلمية والتقنية المتوافرة لإحياء هذه الطبيعة العلمية من جديد ؛ حتى تنال كل فتاة حقها من العلم، ويُحفظ عليها – في الوقت نفسه – خلقها ودينها، وتتمكَّن من أداء واجباتها الاجتماعية والأسرية، وتزول بذلك أعظم أسباب الفتنة الجنسية التي يُولِّدها الاختلاط في التعليم ؛إذ لا خير في علم بلا أخلاق .