الصفحة الرئيسة @ المقالات التربوية @ التربية الاقتصادية للفتاة @ 46- الترفُّع بالنساء العاملات عن الأعمال المهنية الوضيعة
ليس كل الأعمال المهنية شريفة , يتطلَّع إليها الناس, حتى وإن كانت في أصل مزاولتها مباحة ؛ فإن كثيراً من الأعمال التي يضطلع بها بعض الناس وضيعة المكانة ، وهذا يرجع إلى الحكمة الربانية في توزيع المواهب والقدرات بين الخلق ، وتسخير بعضهم لبعض ، حتى تعمر جوانب الحياة المختلفة ، وتزدهر الدنيا بكل أحد من أفراد المجتمع, كلٌّ حسب طاقته ، ونمط هدايته ، ولكن القبيح في الأمر أن تقوم العنصرية الجنسية ، والأنانية الذكورية بتخصيص المهن الحقيرة ، والأعمال الوضيعة ، المحدودة الدخل ، التي لا تحتاج إلى مهارات التدريب والدقة للعنصر النسائي ، ابتداءً من أعمال السكرتارية ، والخدمات ، والتمريض ، وانتهاءً بقيادة سيارات الأجرة العامة وصيانتها، وقمِّ الشوارع، وتنظيف أحذية الزبائن ، ورش المبيدات ؛ حيث تتكدَّس النساء اليوم في هذه المهن وما شابهها بنسب عالمية تتراوح ما بين ( 97% - 100%) ، حتى إن العلاقة أصبحت قوية بين الوظائف التي تشغلها النساء ، وبين الوظائف التي زهد فيها الرجال ؛ فما أن تقبل النساء على مهنة ما إلا تراجعت تلك المهنة ، وفقدت بريقها، وانخفض أجرها، حتى وإن تساوت المؤهلات بين الجنسين ؛ فإن التعليم لا يعني بالضرورة توفير حقوق متكافئة بين الجنسين، وهذا - في الجُمْلَةِ – وضع ظالم ، تأباه القيم الإنسانية، والمبادئ الأخلاقية ، فضلاً عن التشريع الرباني المحكم الَّذي ينهى عن الظلم مطلقاً، ولو كان الظلم يقع على الحيوان الأعجم ، ويأمر الشرع – في مقابل ذلك – بالإحسان والمعروف.
ورغم هذا الوضع العالمي لغالب مهن الإناث: فإن النساء في الدول العربية الغنية قد نجوْن من هذه المفازة المهنية الخطيرة ، حين تولت العمالة النسائية الوافدة – نيابة عنهن – مهام الخدمات المنزلية ، وأعمال التمريض ، والخياطة النسائية ونحوها ، كما تولى القسم الأكبر من العمالة الرجالية الوافدة – نيابة عن الشباب – جلَّ الأعمال الوضيعة في الخدمات العامة ، والزراعة ، والصناعات الصغيرة ونحوها ، وتولى القسم الأصغر من العمالة الوافدة الماهرة الأعمال الرفيعة في إدارة التقنية الحديثة ، التي عجز أبناء المنطقة
– فضلاً عن فتياتها – عن القيام بأعباء إدارتها ، فبدلاً من أن تتوجه جهود التنمية في البلاد الغنية نحو تطوير مناهجها التعليمية بما يناسب العصر ، وتوجيه تخصصات شبابها بما يلائم سوق العمل، ورفع مستوى إنتاجية العامل فيها لتواكب المعدلات العالمية، بحيث يتحمل الشباب أعباء النهضة ، وتكاليف التقدم : يتوجه كثير من الباحثين– بصورة جماعية – إلى تكليف الفتيات والنساء عموماً أعباء النهضة الاقتصادية ، من خلال تحميلهن مسؤولية الحد من استقدام العمالة الوافــدة ، بحيث يتوقف – في نظرهم – حل المعضلة الاقتصادية على مدى زيادة معدلات مشاركة النساء في أسواق العمل ، بما يحدُّ من أعداد العمالة الوافدة ، ويسهم بصورة مباشرة في التنمية ، دون نظر صحيح، ودراسة متأنية للمشكلة الاقتصادية من أساسها .
والعجيب أن هذا التوجه رغم قوته يأتي في هذا الوقت مفرَّغاً من كل دليل علمي ، أو فلسفي ، أو إحصائي يُدلِّل على صحته ، فقد كان لهذا التوجه شيء من المنطق حين كان الشباب في البلاد الغنية
– خاصة الخليجية منها – يُحجمون عن العمل الحكومي، ويزهدون فيه، أما وقد أقبلوا اليوم بصورة كبيرة على عموم الوظائف لا سيما الحكومية منها ، حتى ظهرت بينهم البطالة بنوعيها الكاملة والمقنعة، حتى أصبحوا عبئاً ثقيلاً على المجتمع : فإن هذا التوجه يصبح بلا معنى يُعتمد عليه ، إلا أن يُقصد من ورائه استحقار عنصر الإناث
– على الطريقة العالمية – بتكليفهن القيام بالأعمال الوضيعة التي يضطلع بها جلُّ الوافدين في القطاع الخاص ، وبعض المرافق الحكومية، في الوقت الذي يحجم فيه الشباب عن هذه الوظائف والأعمال ، ويفضِّلون البطالة – في أي صورة – على أن يمتهنوها ، فالعمالة الأجنبية ليست السبب الوحيد والرئيس في أزمة البطالة ، إذا كان الشباب يحجمون عن القيام بمهنهم ، خاصة بعد أن كشفت الدراسات الاقتصادية الحديثة عن وجود حاجة ملحَّة في المنطقة العربية إلى الأيدي العاملة البسيطة أكثر من الحاجة إلى العمالة ذات المؤهلات العالية التي ذخرت بها المنطقة ، وعجزت القطاعات الحكومية عن استيعابها .
كما أن حجم العمالة الوافدة في منطقة الخليج – بصورة خاصة – أكبر بكثير من قدرة هذه الدول على تجاوزها – في هذه المرحلة على الأقل – فضلاً عن أن يكلَّف النساء بهذه المهمة المعقدة ؛ فقد دلت الإحصاءات أن متوسط نسب العمالة الوافدة في دول الخليج حوالي (76%) ، حيث تسيطر على غالب أنشطة القطاع الخاص ، وتجمعها صفات مثل : ضعف المهارات ، الأعمال الوضيعة ، انخفاض الأجور ، العزوبة ، ولهذا تتركَّز العمالة النسائية الوطنية في القطاع الحكومي ؛ لكونه يراعي منهن ما لا يراعيه القطاع الخاص من العمالة الوافدة .
ثم إن النشاط الاقتصادي في التصور الإسلامي لا يتعدى كونه فرض كفاية ، فكيف يسوغ جعله فرض عين على النساء والفتيات قبل أن يكون فرض عين على الرجال والشباب ؟ ومع كل هذا فإن ظاهرة العمالة الوافدة في البلاد الغنية – رغم ما تحمله معها من السلبيات - دليل على الصحة الاقتصادية أكثر من كونها دليلاً على العجز الاقتصادي ، فلولا الوفرة المالية ، والانتعاش الاقتصادي لم يُقبل هؤلاء على المنطقة ، وإلا فأين كانت هذه العمالة قبل ظهور النفط ؟ فإن " نظام الاستقدام كان موجوداً قبل ذلك ، إلا أن عملية الاستقدام على نطاق واسع لم تظهر إلا بعد ارتفاع دخل الدولة من عائدات البترول ، ومن ثمَّ زيادة الإنفاق على مشاريع البنية الأساسية ، والتنمية الاجتماعية " .
ثم إن الأصل في الأمة الإسلامية أنها كتلة واحدة ، والأرض ما دامت إسلامية فهي أرض لكل مسلم يضرب في مناكبها ، ويطلب رزقه ؛ فقد كان المسلمون يرتحلون بين جنبات العالم الإسلامي دون عوائق ، كما أن الاكتفاء الذاتي لأي دولة من دول العالم الإسلامي – مهما حاولت – لا يمكن أن يحصل إلا بوحدة الأمة المسلمة بأجمعها، حين يكمِّل بعضها بعضاً : بالمال والثروة، والأيدي العاملة ، والخبرة العلمية ، فليس من بينها دولة تتوافر فيها شروط التنمية المتوازنة والشاملة ، فلا يصح أن تطغى العصبية الوطنية على ثوابت الشريعة الإسلامية ، إلا في حدود مبدأ : الأقرب أولى بالنفع والإحسان، على أن يكون ذلك في غير شطط أو تجاوز .
إن من الضروري أن يتحمَّل الرجال والشباب حلَّ المسألة الاقتصادية؛ فإنها ليست من صنع النساء حتى يتكلَّفن مسؤوليتها ، كما أنها ليست مهمتهن من أصل الأمر ؛ فقد نهضت الأمة الإسلامية في تاريخها المجيد ، وازدهرت دنياها بكل أنواع التقدم المادي في العمارة والصناعة ونحوهما ، دون أن يكون للمرأة دور مباشر في مثل هذه المهام ، فقد كان الرجال والشباب هم المضطلعين بها ، بل حتى في فترات الأزمات الاقتصادية الخانقة التي مرت عليها، لم يكن ليخطر ببال القادة السياسيين والاقتصاديين – آنذاك– أن يعوِّلوا على جهود النساء للإسهام في حلِّ الأزمة الاقتصادية.
ومن هنا فإن الضابط الإنساني لا يقبل بحال – تحت أي ظرف اقتصادي – امتهان المرأة المسلمة في عمل مهني يضع من كرامتها ، أو يعرضها للابتذال ، بحجَّة المشاركة في التنمية الاقتصادية الشاملة ، أو الحد من استخدام العمالة الوافدة ، فقد أوصى وزراء خارجية الدول الإسلامية في دورتهم الخامسة والعشرين لعام 1418هـ بما يفيد هذا المضمون : " يطلب بإصرار من الدول الأعضاء أن تواصل العمل على الرقي بمستوى الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية للبنات والنساء الشابات ، باعتبارهن الرأسمال الضروري للوصول إلى المجتمع الإسلامي السليم ، كما تشجِّع هذه الدول على وضع السياسات والبرامج التي تتناسب مع تحسين مركز البنات والنساء والشابات في المجتمع، وذلك وفقاً لمبادئ الشريعة الإسلامية ".
ثم إن كان ولا بد من مشاركتهن فعلاً فلتكن في مواجهة العمالة النسائية الوافدة التي تخدمهن في المنازل ، وتخيط ملابسهن في المشاغل ، وتسهر عليهن في المستشفيات ؛ فإن عددهن من الكثرة في منطقة الخليج ما يكفي لاستيعاب كل القادرات على العمل من نساء وفتيات المنطقة ، فإذا شغلن هذه الأعمال فإنهن - بعد ذلك- لا يحتجن إلى القيام بأعمال الرجال الوافدين في: الحدادة ، والنجارة ، وقيادة سيارات الأجرة ، وإصلاح كهرباء الشوارع، ونحوها من الأعمال التي لا تناسب النساء ، والتي يتحمس – للأسف - بعضهم لمثلها ، بكل جراءة، دون تمييز بين الرجال والنساء .