الصفحة الرئيسة @ المقالات التربوية @ التربية العقلية للفتاة @ 53- تدريب الفتاة على الأخذ بالحكمة العقلية
الحكمة : هيئة للقوة العقلية العلمية، والحجة القوية التي تفيد الاعتقاد الصحيح دون الظن، وتحمل معها موافقة الحق، وسداد الأمر، وتهدف إلى حسن اختيار القرارات، وتبنِّي الأفكار، والأخذ بالفضائل والمكرُمات، والترفع عن الرذائل والمحقرات، والتشريف بالكمالات في العاجل، والفوز بالسعادات الأخروية في الآجل .
وهذه فضائل صعبة المنال، تُولد من المعاناة من حياة أخذت أبعادها الكاملة، ومن معرفة الذات، والاستمرار في التعليم، ومن التجارب، مع التقدم في العمر ، ومن هنا كثيراً ما يقع الشباب من الجنسين في أخطاء سلوكية تعوزها الحكمة العقلية عند اتخاذ القرارات حيال المواقف الاجتماعية المختلفة ؛ وذلك لقلة الخبرة والتجارب من جهة، وسيطرة الأحاسيس والمشاعر دون النظر العقلي من جهة أخرى.
وأما وسيلة الحكمة لبلوغ غايتها الخيِّرة فتكون بالمعرفة التامة الواسعة، والعلم الصحيح بحقائق الأشياء على ما هي عليه، مع إعمال النظر، والدربة والحنكة، بعيداً عن النظرة الجزئية الضيقة، التي تُعد من أعظم أسباب الأخطاء في التفكير، ومن هنا تظهر علاقة التعليم بالحكمة ؛ إذ لا بد لصوابها، وسدادها من العلم النافع الصحيح، وقد ثبت ميدانياً تأثير التعليم الصحيح على حسن اختيار القرارات السديدة، وتبنِّي الاتجاهات الحميدة.
إن حاجة الفتاة المسلمة المعاصرة للتدريب على الحكمة العقلية لا يكمن في كونها لذة عقلية فحسب ؛ بل لكونها حاجة عصرية فرضتها طبيعة الحياة الاجتماعية، ففي القديم كانت القلَّةُ من أهل النظر هم الذين يفكرون نيابة عن الآخرين، فيصدر الناس عن آرائهم واجتهاداتهم، وأما اليوم فمع مزيد من الحرية الواسعة، وزيادة التعقيد الاجتماعي، وبروز الفردية في أعنف صورها : ضعف تأثير هذه القيادات الفكرية، والمذاهب، والعادات، والتقاليد في الحياة الاجتماعية، وأصبحت الحاجة إلى التفكير الفردي، واتخاذ القرار الشخصي ضرورة لا مناص منها ؛ إذ تضطر الفتاة – بصورة مستمرة – للنظر في المواقف الاجتماعية، والأحداث المختلفة، والآراء المتنوعة، التي غصَّت بها الحياة الاجتماعية المعاصرة، فتحتاج في كل هذه المواقف المتباينة إلى قرارات سديدة ناضجة, تعوزها الحكمة العقلية الحميدة .
إن الفتاة المسلمة المعاصرة في حاجة ملحَّة لاستخدام الحكمة العقلية في إدراك السنن الإلهية في الكون، والمجتمع، والتاريخ، والإنسان ؛ بحيث تتقن التصرف الحكيم مع هذه السنن تحت ظروف العصر المتغيرة، وهي في حاجة أيضاً لفهم قانون السببية الذي يربط العلاقـــة بين الأســباب ومسبباتها، وقانون العلِّية الذي يربط العلاقـــة بين العلَّة ومعلولاتها ، والتدريب على اقتناص الفرص واستغلالها، وتنظيم الحياة، وتقديم الأهم على المهم، والإفادة من الوقت، وضبط النفس، والاستفادة من كل الخبرات السابقة، وربط بعضها ببعض في صورة بناء واحد مترابط متلاحم، كل هذه الحاجات والممارسات العملية الواقعية تفتقر إلى سداد النظر العقلي المبني على المعرفة والعلم، فلا بد لكل هــذا من حكمة عقلية، تعرف بها الفتاة أفضل الأشياء بأفضل العلوم .
ولا ينبغي أن يُفهم من الحكمة أنها تقتضي عدم الوقوع في الخطأ، أو أن الحكمة حكْر على الأذكياء ؛ فإن الخطأ طبع بشري، والذكاء لا يعني بالضرورة حسن التصرف، أو المنطقية في التفكير، فالحكمة لا تتطلب موهبة ذهنية خاصة، أو تعليماً عالياً، أو حتى تقدماً في العمر، وما من شك أن الذكاء والتقدم في العمر يساعدان على تكوين الشخصية الحكيمة، ولكنهما ليسا شرطين أساسين ؛ بل إن معظم الناس يمكنهم أن ينالوا الحكمة؛ لأنها تعتمد على المحاكمة الناجمة عن حياة أخذت أبعادها كاملة، كما تعتمد على حسن التعامل مع التحديات والأزمات، أكثر من اعتمادها على المنجزات الفكرية والتعليمية العالية .