الصفحة الرئيسة @ المقالات التربوية @ التربية العقلية للفتاة @ 42ـ النهوض بملكة التفكير عند الفتاة


معلومات
تاريخ الإضافة: 23/8/1427
عدد القراء: 2727
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

التفكير هو: التقصِّي المتقن المدروس للخبرة السابقة من أجل الفهم, أو اتخاذ قرار, أو حل مشكلة, أو الحكم على الأشياء, وهو من قوى العقل الباطنة التي تجول في عالم المعقولات, "وهو أرقى العمليات الذهنية, والوظائف النفسية على الإطلاق, فمن خلال التفكير تتم عمليات تكامل وإعادة صياغة المعلومات التي تتيح لنا معرفة الحقائق الخارجية والداخلية", وحاجة الإنسان إليه أبلغ من حاجته إلى المعرفة نفسها, ولهذا سعت الشريعة وقصدت إلى إصلاحه من خلال استدعاء العقول للنظر والتذكر والتعقل والعلم والاعتبار, فمن قلَّ تفكُّره: قلَّ اعتباره, ومن قلَّ اعتباره: قلَّ علمه, ومن قلَّ علمه: كثر جهله"؛ ولهذا يُعلى القرآن الكريم من شأنه, ويضعه في قمة العمليات العقلية, فقد أمر المولى عز وجل بالتفكر في كثير من مواضع كتابه العزيز, حتى عدَّه بعض الصحابة من أعظم أنواع العبادات.

وتختص فترة الشباب ابتداء من الثانية عشرة -تقريباً- بالقدرة على ممارسة العمليات العقلية المجردة، التي تدعم عندهم النمو المعرفي، فيستهويهم التفكير التجريدي العميق في بعض الفلسفات المختلفة، والأمور الدينية، والقضايا السياسية، مع القدرة على شيء من التنبؤ، والإمعان العقلي في الاحتمالات والتوقعات المستقبلية، بحيث يصبح التَّمتُّع بأنواع مختلفة من التفكير العقلي المجرد: دليلاً على صحة السمات العقلية عندهم، وهذا النوع من التفوق العقلي، والتنوع الفكري يُلحظ في شخصية السيدة عائشة رضي الله عنها حيث كانت تتمتع بقدرات عقلية متنوعة في مختلف المعارف الإنسانية المعروفة في ذلك الوقت.

ولما كان التفكير الجيد من المهارات المكتسبة: فإن التعويد عليه، وممارسته باستمرار هي الوسيلة الصحيحة لبلوغ الذروة فيه، فإن الذي يعتاد التفكير يصعب عليه تركه، وحتى تتمكَّن الفتاة من استخدام قواها العقلية في التفكير السليم لا بد أن يحتفَّ نشاطها العقلي بالمثيرات الذهنية التي تشبه الشرارة الناجمة عن احتكاك حجرين، وذلك من خلال الإثارة الانفعالية، فإن العلاقة بين العواطف والفكر متبادلة، كالعلاقة بين الوقود والنار، ومدار التفكير: حل المشكلات، فالفكر "لا يحدث إلا إذا استلزمته حالة انفعالية خاصة يمر بها الإنسان أثناء مواجهته مشكلة ما يتحتَّم عليه حلها"، فيُثار من خلالها التفكير, ويُروى في هذا المجال: أنه كانت لأحد قضاة مدينة "لَوْشَة" الأندلسية زوجة برعت في حلِّ مسائل أحكام النَّوازل, فما أن تُعرض عليها مشكلة نازلة إلا انقدح ذهنها عن أفضل حلِّ لها.

إن من خصائص التفكير الإبداعي تخلُّصه من الأنماط التقليدية, وانطلاقه في التعامل مع الأشياء والمواقف بمنظور جديد متميِّز, بحيث تشعر الفتاة وهي تتعامل مع المواقف الاجتماعية المختلفة: بحرية التفكير, وتحسُّ بالمساحة الواسعة للانطلاقة العقلية ضمن حدود الخبرة المتاحة, وضوابط المعرفة, في جوٍ مفعم باللُّطف الاجتماعي, والانفتاح العلمي, والتَّسامح الاجتهادي, فإن الضغوط النفسية كالقلق, والاكتئاب, والانفعالات الحادَّة: أشد معوقات التفكير السليم.

وفي هذا المعنى تروي السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها وهي الفتاة الشابة دون الثامنة عشرة من عمرها: "أنها اعتمرت مع النبي r من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي قصرتَ وأتممتُ, وأفطرتَ وصمتُ؟ قال: أحسنت يا عائشة, وما عاب عليَّ", فرغم أنها خالفت فعل صاحب الشريعة, عليه الصلاة والسلام فلم يعبْ عليها لكونه أمراً مباحاً, إلا أنه أعطاها بهذا التسامح الاجتهادي شحنة نفسية, وتحفيزاً عقلياً لمزيد من العطاء الفكري, والإمعان الذهني؛ لكونه عليه الصلاة والسلام يعلم بوادر تفوقها العلمي, ورجاحة نظرها العقلي, حتى قال عنها مرة: "فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام", فأثمر ذلك التعامل النبوي الراقي أن أصبحت عائشة رضي الله عنها رمزاً للتفوق البشري في ميدان الفهم, والذكاء, والاستنباط بما لا مزيد عليه.