الصفحة الرئيسة @ المقالات التربوية @ التربية العقلية للفتاة @ 14ـ الربط بين المعرفة العقلية والأخلاق في سلوك الفتاة المتعلمة


معلومات
تاريخ الإضافة: 20/8/1427
عدد القراء: 2901
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

تحاول الحضارة الغربية منذ القرن السابع عشر الميلادي، من خلال أنظمتها  التربوية أن تفصل في أذهان المتعلمين بين العلم والأخلاق، "في الوقت الذي تشهد فيه حضارتهم المعاصرة: أن النمو في المعرفة العلمية وتطبيقاتها التكنولوجية يواكبه بالضرورة سلم من القيم والمفاهيم المرتبطة بها"، فالكشوف العلمية، والمخترعات المختلفة تحكمها قيم المجتمع، فتوجهها إلى الخير، أو توجهها إلى الشر، يقول الأستاذ مالك بن نبي: "إن العلم بحرصه على الحقيقة يصبح أخلاقاً، لا يطيق الصبر على الخطأ حتى يجري التصحيح اللازم، العلم ليس ضد الأخلاق، ولكن الأخلاق ثمرة العلم وخلاصة المعرفة والتجارب"، والأصل:أن العلم النافع يؤثر بصورة إيجابية في سلوك الإنسان، ومصطلح العمل في مفهوم الإسلام يتسع ليشمل جميع السلوكيات والممارسات الأخلاقية المتنوعة، ومن هنا: فإن العلم ليس مجرد نشاط عقلي إنساني؛ بل هو علاوة على ذلك: نشاط اجتماعي وأخلاقي من الدرجة الأولى، والتقدم العلمي المادي....لا يكفي وحده، مالم تضبطه القيم الخلقية فتوجهه لصالح الإنسان".

ومن خلال هذا الارتباط العضوي الوثيق بين المعرفة والأخلاق تأكَّد لدى المربين المسلمين أن الهدف الأعلى من التربية والتعليم: تهذيب الأخلاق، وتربية الأرواح على الفضيلة، والآداب السامية، وليس مجرَّد حشو أذهان المتعلمين بالمعلومات والمعارف، فتنسجم المعرفة بهذا الارتباط مع روح الدين الإسلامي، ومبادئه الخلقية السامية لتصبح "مطية للدين، وقوة للأخلاق، وسنداً للإيمان، ووسيلة للعمل"، يقول أبو زكريا العَنْبري مبيِّناً الارتباط الوثيق بين الأخلاق والعلم: "علم بلا أدب كنار بلا حطب، وأدب بلا علم كروح بلا جسد".

ورغم وضوح هذه العلاقة بين المعرفة والأخلاق، وجلائها حتى عند بعض عقلاء الغرب في القديم والحديث: فإن جمعاً من المهتمين بتربية الإناث في العالم العربي يحاولون منذ زمن التهوين من هذه العلاقة، زاعمين- بإطلاق- أن المعرفة هي الفضيلة، وأن الجهل هو الرذيلة، متناسين أن الصلاح بمفهومه الشامل للاعتقاد والسلوك هو الغاية الكبرى من تربية الفتاة، وأن العلم- مهما بلغ من الاتساع والصحة- لا يؤهل بالضرورة صاحبه- بصورة دائمة- للتفوق والصدارة؛ فإن هناك عوامل أخرى تتدخل في تقويم درجات الفضل، ومكانة الإنسان، ولا سيما في عالم النساء؛ فهذه السيدة عائشة رضي الله عنها رغم أنها بلغت من العلم والمعرفة ما لا مزيد عليه، وانتفعت الأمة قاطبة بعلمها عبر الأجيال، فإن هذا كله لم يُؤهلها للتفوق على السيدة خديجة، أو التقدم عليها في الفضل-بإجماع المسلمين- رغم انحصار خيرها وجهادها في شخص رسول الله r  دون سائر الأمة، إلى جانب أنه لم يُؤْثر عنها في باب العلم شيء يُذكر، فليست المعرفة في حدِّ ذاتها كافية لبلوغ الفضل والمكانة في التصور الإسلامي.

إن التاريخ يشهد بأن تعليم الفتاة إذا لم يقم على الربط الوثيق بين المعرفة والأخلاق فإنه يجرُّ مفاسد وانحرافات عظيمة، ربما تفوق في جملتها مفاسد الأمية والجهل بالمعارف العلمية، فالرابطة بين التقدم العلمي الحديث، والانحراف الخلقي غدت وثيقة إلى أبعد حد، وأصبحت مؤسسات تعليم الفتيات وسيلة ناجحة: لعبور المعارف والتصورات المنحرفة، مثل: الشذوذ والهوس الجنسي، ومشكلات الإجهاض، وتحديد النسل، ونزع الحجاب، ودعم الاختلاط المشين، إلى جانب الجراءة الاجتماعية، وضعف الأنوثة، واختلال القيم، والتمرد الأسري، والعجيب أن غالب داعيات التحرر كنَّ للأسف من المتعلمات المثقفات، ولا سيما من الملتحقات بالتعليم العالي، وكأن تعليم الفتاة أصبح اليوم في كثير من الأمصار أداة هدم لكيان الأمم، ووسيلة قوية لأفول حضارة اليوم واضمحلالها، في حين لو وجدت التربية الإسلامية بنظامها الشامل المتكامل "طريقها بجد إلى نفوس الناشئة من شباب وفتيات في جميع مراحل التعليم، فإن ذلك من شأنه أن يصبغ تدريجياً معظم الوضع الاجتماعي بالصبغة الخلقية الإسلامية"، التي تجمع في بنائها للفرد بين المعرفة الصحيحة، والخلق القويم، وهذا ما دعا المهتمين بجُنَاح الأحداث إلى التأكيد على ضرورة الاهتمام بالتربية الإسلامية، وتطوير مناهج التعليم العام بما يعزز القيم الخلقية، والسلوك الحسن؛ بهدف المحافظة على النشء من الانحراف.

إن الذي يجب أن تعلمه الفتاة المسلمة المعاصرة، وتتيقَّن منه: أن أي علم لا يضبط سلوكها، ولا يبعدها عن المعاصي، ولا يحملها على الطاعة: لن ينجيها غداً من عذاب الله تعالى وسخطه؛ فإن ثمرة العلم: الخوف من الله تعالى، والحياء منه في الأقوال والأعمال، وفي سائر الأحوال، "كما ينبغي ألا تفهم الحرية الشخصية على أنها الاستجابة للشهوات، فتلك هي حرية الحيوان الذي لا يستطيع أن يتحرر من عبودية شهواته"، كما أنه لا خير في تعليم ليس له نظام قيمي خلقي، يُرشد إلى الفضيلة والخير، ويربي عليهما، ويساعد على التَّمييز بين الحلال والحرام، والخير والشر، فإن هذا النوع من التعليم القاصر كفيلٌ بأن يطفئ نور العقل، ويُنقص الفهم، ولن تجني الفتاة منه سوى مزيد من الانحراف والضلال، فإن "التربية الخاطئة هي أهم العوامل البيئية صلة بالجريمة".

ولا ينبغي استهجان مبدأ التأكيد على الأخلاق، والتربية عليها ضمن المنهج التعليمي، فإن التربية الأخلاقية- ولا سيما للفتيات- جزء أصيل يتخلل جميع المناهج الدراسية في اليابان، وعبر جميع مراحل التعليم، ثم إن النهج التعليمي الذي لا يستند إلى الإيمان والأخلاق الدينية هو منهج عاجز عن كبح جماح غرائز الإنسان، وضبط نزواته وميوله، وتعديل سلوكه لما يخدم الفرد والمجتمع، والأمة الإسلامية لم تعرف عبر تاريخها هذا الفصل النكد بين العلم والأخلاق، فقد كانت الفتيات يتعلمن العلم ويلتزمن الخلق، فهذه فاطمة بنت الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني، التي تتلمذت على يد والدها، يقول عنها الإمام السخاوي: "ولم تزل على جلالتها وتصوُّنها، لم تُضبط لها هفوة ولا زلة"، وعلى هذا المستوى الخلقي كان نهج تعليم الفتاة المسلمة الحرة في تاريخ الأمة الإسلامية المجيد.