الصفحة الرئيسة @ المقالات التربوية @ التربية العقلية للفتاة @ 12ـ أنواع معارف الفتاة العقلية


معلومات
تاريخ الإضافة: 20/8/1427
عدد القراء: 2856
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

يميل البعض إلى حصر معارف الفتاة في أنواع معينة من العلوم التي تخدم دورها الاجتماعي, ولا تخرجها عن طبيعتها الأنثوية, وغالباً ما يكون ذلك على حساب العلوم الطبيعية باعتبارها ميداناً خاصاً بالذكور؛ لكونها مرتبطة عضوياً بالجانب العملي الميداني الذي لا يناسب الإناث في الغالب.

ولعل النظرة المتأنية إلى هذه العلوم الطبيعية في التصور الإسلامي يكشف للمتأمل جانباً آخر لعلاقة هذه العلوم بالناحية العقلية عند الفتاة المسلمة، فمع كون هذه العلوم مهمة وضرورية لحياة الإنسان ومعاشه، ومحطَّ اهتمام الدول المعاصرة بصورة عامة: فإنها إلى جانب ذلك ميدان واسع ومهم لنشاط العقل البشري، ووظائفه الكبرى في الكشف عن السنن الإلهية في نظام المخلوقات المبثوثة في هذا الكون؛ "فإن كل ما يدركه بصر الإنسان أو حسُّه هو مادة تستحق منه بذل الجهد العقلي للكشف عن كنهها، ومعرفة حقيقتها، واستنباط قوانينها".

والقرآن الكريم يحمل المكلَّفين بقوة نحو البدء بالمعرفة عن طريق هذا الوجود المادي المحسوس, ويجعل "السند الجديد لمعارف البشر مستنبطاً مما يرونه ويسمونه ويلمسونه من سنن الله تعالى في الخَلْق, ومن بديع صنعه في الأشياء المادية", فقد خصَّ المولى عز وجل في كتابه العزيز مساحة ضخمة, ربما تعدل ثمن آياته, كُلُّها "تدعو المؤمنين إلى دراسة الطبيعة, وبذل الجهد العقلي في البحث عن المعرفة", منها نحوٌ من خمسين آية تحث على التَّعلُّم من خلال النظر في الأرض خاصة, والسير في مناكبها, كقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية:3-5], وقوله أيضاً: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... } [يونس:101], يقول ابن كثير معلقاً على هذه الآية: "يرشد تعالى عباده إلى التفكر في آلائه, وما خلق الله في السموات والأرض من الآيات الباهرات لذوي الألباب, مما في السماوات من كواكب نيِّرات, ثوابت وسَّيارات, والشمس والقمر, والليل والنهار".

إن هذا التوجيه الرباني نحو الكون وعلومه يُحيي في النفس الخشية لله تعالى, وتعظيمه؛ إذ بثَّ سبحانه وتعالى في جنبات هذا الكون دلائل وجوده المادي, وعظيم قدرته, حتى إن "العالم المادي متى تجاوز في تفكيره حدود ظواهر المادة وصل حتماً إلى الإيمان", وقد صرَّح جمع من العلماء الغربيين بوجود الله تعالى, وعظيم قدرته, متأثرين بوطأة هذه المعارف الكونية الكبرى على نفوسهم وعقولهم؛ إذ لا يسع "الإنسان العادي أمام كل ظاهرة من هذه الظواهر الكونية, فضلاً عن الباحث المتطلِّع إلى معرفة أسرار الكون, والمعنيِّ بالكشف عن نواميس الطبيعة: إلا أن يقف مبهوراً أمامها, مأخوذاً بعظمة مبدعها وصانعها, هاتفاً من أعماق قلبه مع كتاب الله إذ يقول: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ...}".

ومع كون هذه المعارف العلمية الطبيعية تزرع في القلب عظمة الخالق وإجلاله, والخوف منه والشوق إليه, والإخلاص له: فإنها إلى جانب هذا تُشيع في "النفس الطمأنينة والأمن؛ إذ تعرف الأسباب التركيبية والقانونية لسيرورة الكون في أحداثه ومنقلباته, فلا يبقى مجال ... لتفسيرات الخرافة والأوهام, واليأس والتشاؤم ... تُعرقل مسيرة التقدم الروحي للإنسان" فكل مدَّخرات الكون المادية مرتبطة في التصور الإسلامي بالقيم الروحية, فلا تكون مادية صرفة؛ بل لها تأثيرها الخاص في داخل النفس الإنسانية.

إن أقلّ درس يمكن أن يجنيه المكلَّف من هذه العلوم المحكمة الدقيقة: الشعور بالمسؤولية, والانضباط أمام التكاليف الاجتماعية المختلفة؛ فقد أثبت البحث الميداني أن طلاب وطالبات الكليات العلمية التطبيقية يفوقون أمثالهم من كليات العلوم الإنسانية والتربوية في الانضباط الاجتماعي, ولعل ذلك الانضباط يحصل لهم من التأمل في أجزاء هذا الكون المحكم, من عظيمها إلى حقيرها, حيث يجدون الكلَّ يعرف يقيناً ماذا يصنع؟ وكيف يسلك؟ وماذا يريد؟ في صورة متناسقة متزنة بديعة, تفوق الوصف.

ولما كانت أهمية النظر والتفكر في آيات الكون وعلومه المختلفة بهذا العمق التربوي, والأهمية الإيمانية البالغة: أجمع أهل العلم على "جواز السفر وشد الرَّحل لغرض أخروي, كالاعتبار بمخلوقات الله عز وجل, وآثار صنعه, وعجائب ملكوته ومبتدعاته", ومن هنا تظهر أهمية العلوم الطبيعية كالفيزياء, والكيمياء, والجيولوجيا, ونحوها؛ لكونها مادة الكون التي وجَّه إليها القرآن الكريم بالنظر والتسخير, ويظهر أيضاً بوضوح جواز تعلم الإناث لهذه العلوم؛ لكون الخطاب القرآني في هذه الآيات إنسانياً وليس بذكوري, موجَّهاً للمكلفين من نوعي الإنسان, ثم إن الفوائد الإيمانية والنفسية التي يمكن أن يجنيها الذكور من تعلم هذه العلوم الكونية هي عين الفوائد التي يمكن أن يجنيها الإناث أيضاً من تعلم هذه العلوم, سواء بسواء, مالم يصرفهن تعلم هذه العلوم عن وظيفتهن الرئيسة في الحياة الاجتماعية, أو يسوقهن إلى ممنوع شرعاً, فيقعن في الحرج والإثم, كما يقع فيه الرجل الذي يُشغله النظر في هذه العلوم أو في غيرها عن إعالة أهله وأطفاله, فليست المسألة هنا ذكورية بل إنسانية يشترك فيها الجنسان.