الصفحة الرئيسة @ المقالات التربوية @ التربية العقلية للفتاة @ 4ـ الحدود المرحلية لمعارف الفتاة العقلية


معلومات
تاريخ الإضافة: 20/8/1427
عدد القراء: 2610
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

يحتدم الصراع حول الحدود المرحلية لمعارف الفتاة العقلية، والحجم من الكم العلمي الذي يناسب الفتاة من المعارف والعلوم التي تقف عندها، فبعض المهتمين يحدُّ تعليم الفتاة بالمرحلة الابتدائية، وآخرون من رجال التربية يحدونها بالمرحلة الثانوية؛ ليكون التعليم العالي خاصاً بالنخبة المتفوقة من الجنسين، وفي الجانب الآخر يذهب جمع من رجال العلم نحو الانفتاح الكامل دون انتقاء أو استثناء، وبين هذه الأطراف المتباينة يكثر الجدال والتردد عند العامة من الفتيان والفتيات وأولياء الأمور، حول تحديد المرحلة التعليمية المناسبة للفتاة المسلمة المعاصرة.

إن قيام مثل هذا الصراع ليس بغريب على المجتمعات الإسلامية النامية، التي حُرمت من التطبيق الواقعي لتعاليم الإسلام، وحُجب عنها كثير من المفاهيم الإسلامية الثابتة، فقد شهدت المجتمعات الغربية عند نهضتها الحديثة نزاعات أشدَّ احتداماً في شأن تعليم الفتيات، من جهة النوع ومن جهة الكم المرحلي، حتى إن تعليمهن في الكليات العلمية كان يُعد من مظاهر الاستهتار بالأنوثة؛ إذ كان في غالبه مقتصراً على الذكور؛ بل وحتى التعليم الثانوي لم يكن للفتيات عامة بل كان للنخبة من فتيات الأسر الغنية، وما كان انفتاح التعليم عندهم للجنسين إلا في المرحلة الابتدائية فقط، وما أن مرَّت على المجتمعات الغربية، والأمة اليابانية عقود من القرن العشرين حتى انتصر وظهر المؤيِّدون لمطلق تعليم الفتاة، وأصبح التعليم بجميع مراحله المختلفة، وتخصصاته المتنوعة: مشاعاً بين الجنسين، يلتحق به أعداد كبيرة في كل عام، حتى إن (15%) من أفراد الشعب الأمريكي في سن (18-20) سنة يتلقون تعليماً عالياً، وأصبحت المؤسسات الجامعية في بعض الدول المتقدمة تُعدُّ بالآلاف، وتقبل الطلاب من الجنسين.

وكما أسفر النزاع في أوروبا عن انتصار المؤيِّدين للانفتاح التعليمي؛ فقد شهد العالم العربي أيضاً انتصارهم في صورة قد تكون أبلغ من سابقتها؛ إذ إن أعداد الفتيات الملتحقات بالتعليم العالي في بعض الدول الخليجية - بصورة خاصة - تفوق أعداد الطلاب، وربما فاقتها بأضعاف، بل إن نسبة إقبالهن على التعليم العالي تفوق -في العموم- نسبة إقبال الفتيات الأمريكيات عليه، رغم أن هذا النوع من التعليم لم يبدأ في بعض هذه الدول إلا في عام 1380هـ.

إن بؤرة الصراع بين هاتين الفئتين من المؤيدين والمعارضين تعود إلى ثلاثة أسباب رئيسة، الأول: سبب خُلقي، حيث ارتبط -إلى حد كبير- تعليم الفتيات في العالم بانحرافهن السلوكي، والسبب الثاني: اقتصادي، يحتِّم على الدول النامية أسلوب الانتقاء، وحسن الاختيار، وحصر التعليم العالي في فئات معينة، والسبب الثالث: اجتماعي حيث تتعطَّل الفتاة بالتحصيل والانشغال العلمي عن وظيفتها الاجتماعية في الزواج والإنجاب، ورعاية النسل.

إن العودة بهذا النزاع على المحكِّ التربوي الإسلامي، بعد أن تتخلص الأمة من أغلالها الاقتصادية، وتتطهر مؤسساتها التربوية من الانحراف الخلقي، وتتبنّى صيغاً جديدة لأساليب وأنظمة تعليم الفتاة، تراعي وظيفتها الاجتماعية: فإن القول بالانفتاح التعليمي للفتيات، والتوسع فيه كأقصى ما يمكن هو: المذهب الراجح والغالب في التصور الإسلامي؛ حيث أيَّدته المؤتمرات التعليمية الإسلامية، وكثير من الدراسات العلمية في القديم، والحديث، وذلك لمبررات علمية وواقعية متعددة:

منها: أن الأصل في المعارف والعلوم -أياً كانت- أنها إسلامية، يستوعبها النظام التربوي ما دامت صحيحة، "وحق الإنسان ألا يترك شيئاً من العلوم أمكنه النظر فيه، واتسع العمر له، فلا ينبغي للعاقل أن يستهين بشيء من العلوم؛ بل يجب أن يجعل لكل واحد حظَّه الذي يستحقه، ومنزلته التي يستوجبها"؛ لأنها تدخل ضمن الحكمة التي ينشدها المؤمن، ويسعى لتحصيلها، فلا يقتصر على علم دون علم، حتى وإن كان علماً للسلف رحمهم الله، خاصة وقد تشعَّبت المعرفة الإنسانية في العصر الحديث تشعباً لا مثيل له في جميع ميادين الحياة، وحصل للإنسان من المعارف ما يثقل وزنه، ويُغرقه في بحر من المعلومات المستمرة، في معدلات مذهلة: مما يجعل التوسع في التعليم بفروعه المختلفة حاجة إنسانية ملحَّة.

ومنها: أن المعرفة منحة ربانية، ونعمة إلهية: اختص الله تعالى بها الإنسان، وميزه بها عن الحيوان، والفتاة أحد نوعي الإنسان المتطلِّع إلى هذه النعمة والمنحة الربانية، والمتعة المعرفية، فإن المعرفة من أعظم ملذات الدنيا، وقد أثبتت بعض الدراسات: أن كثيرا من الإناث يهدفن إلى المعرفة متشوقات إليها أكثر من أي هدف آخر، خاصة وأن التعليم العالي يرفع من شأنهن الاجتماعي، ويحقق لهن -في كثير من الأحيان- مزيداً من الرقي الإيماني، والتمسك بالقيم الأخلاقية.

ومنها: أن "تحصيل المعرفة وكسبها، وتنميتها باستمرار، والتوسع في مجالاتها: يُعتبر من أهم أهداف العملية التربوية؛ لأنها وسيلة الفرد والجماعة إلى تحقيق أهدافهما الخاصة والعامة"، فالتعليم بهذا المفهوم أساس تقدم الأمة؛ لأن "العلم لا وطن له، ولا مالك له إلا من يتخذه قوة يستكشف بها أسرار الكون؛ ليطوِّع عناصره فيما تُشيَّد به صروح العزة والكرامة"، والتوجيه القرآني الأول: "اقرأ" يحمل دعوة صادقة نحو المعرفة بإطلاق، دون حد ولا قيد، ما دامت معرفة لازمة للأمة، صحيحة المحتوى، والانطلاق بالفتاة ضمن هذا التوجيه العام: هو في الحقيقة انطلاق بنصف الأمة، كما أن الإخفاق في هذا الجانب هو قُعود مُثْقَلٌ بهذا النصف عن التقدم والمنافسة العالمية، ولن تفلح الأمة الإسلامية، ولن تنهض من رقدتها ما دامت تٌصرُّ على أسلوب الانتقاء في توزيع المعرفة، فأمة اليابان لم تنطلق ناجحة متفوقة في الصناعات الحديثة حتى اعتمدت مبدأ التوسع في التعليم دون تمييز.

ومنها: أن التربية والتعليم في التصور الإسلامي عملية مستمرة مدى الحياة دون انقطاع؛ لأنها تنطلق بدافع نابع من أصل الطبع الإنساني الراغب في الاستحواذ على المعرفة، والاستزادة منها، فلا ينقطع بالمرحلة التعليمية -أياً كانت- بل يستمر مع الإنسان ليواجه المتغيرات الاجتماعية والحضارية والتكنولوجية في واقع الحياة؛ حتى يتحقق ارتباط الإنسان بالبيئة من حوله، ويتحقق له الاستغلال الكامل لطاقاته البشرية المتاحة، فالفكر الإسلامي بحضارته الفريدة ينطلق بالإنسان - ضمن مفهوم الحكمة - في رحاب واسعة من المعارف المختلفة التي لا يحدُّها المكان ولا الزمان؛ لأن مكانها القلب، وزمانها العُمر، فهذه الفاضلة فاطمة (ت708هـ) بنت المقرئ جمال الدين الأنصاري سمعت من مائة شيخ، وقبل موتها بيوم واحد قرأ عليها الذهبي، بل إن زينب (ت735هـ) بنت يحيى بن الشيخ عز الدين عبد السلام رحمها الله قُرئ عليها في يوم موتها أجزاء من معجم الطبراني، وهكذا دون ملل حتى يستوعبن بالعلم الحياة كلها، والرسول r يقول: "الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، أو عالماً أو متعلماً".