الصفحة الرئيسة @ المقالات التربوية @ التربية الزوجية للفتاة @ 16ـ الكفاءة بين الزوجين - جذورها النفسية وموقف الإسلام منها


معلومات
تاريخ الإضافة: 20/8/1427
عدد القراء: 6411
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

تراعي الشريعة الإسلامية في بنائها الاجتماعي طبائع النفوس البشرية في ميولها ورغباتها، ومحبوباتها ومكروهاتها، ضمن ما يحقق المصلحة الشرعية، ويدفع المفسدة المتوقعة؛ فإن الذي أنزل الشريعة - سبحانه وتعالى - هو الذي خلق الإنسان، ويعلم طبيعته وميوله .

ولقد جرت طبائع غالب الناس في اختيار الأصدقاء والجلساء والزملاء على الأكفاء، فيحب الرجل أن يصادق من يكافئه في المكانة الاجتماعية، ومن يشابهه في الطباع والأفكار، ويقاربه أيضاً في السن؛ لما يكون في هذا التجانس من تمام الألفة، ودوام المحبة بين الأصدقاء، وهذا أمر يكاد يكون عاماً في أوساط الناس، ومخالفته تحتاج إلى شيء من الصبر، ومدافعة هوى النفس؛ فقلَّما يتصادق غنيٌ وفقير، وأمير وحقير، وشريف ووضيع؛ إذ يحتاج كلٌ منهما إلى جهد نفسي يتكلَّفه لصاحبه، ويدافع نفسه، ولا سيما من جهة صاحب المكانة و الغنى والشرف، فالأمر عليه أصعب؛ ولهذا كانت ملازمة الفقراء والمساكين، من مسالك الزهاد والعباد، الذين تجرَّدوا عن كثير من حظوظ النفس ورغباتها؛ فإن مسلك التواضع عسير، وإنزال النفس دون مقامها صعب .

وتتجلى قضية الكفاءة بين الناس كأشد ما يكون في مسائل النكاح، حين ترفض الأسرة الشريفة الوضيع من الخطَّاب، وتأنف المرأة أن تكون فراشاً لرجل دونها في الشرف والمكانة؛ فالأسرة تتضرر بالرجل الوضيع حين يكون سبباً في تنفير الشرفاء من هذه الأسرة، وحصول الشقاق بين الأقارب، والمرأة تتضرر به حين تراه دونها، فلا تنبسط له انبساط الزوجة المحبة، ولا تقوم على بيته قيام الزوجة المجدة، إضافة إلى ما في الزواج من طول الصحبة، ودوام العشرة .

والشريعة الإسلامية حين تُقرُّ مبدأ الكفاءة بين الزوجين إنما تقصد إلى دوام العشرة، وحصول الانسجام والألفة بين الزوجين، مراعية في ذلك طباع النفوس، وما جُبلت عليه، وليس مقصد الشريعة تعقيد شؤون الزواج - حاشاها - فقد جرت أحكامها في أمور النكاح على التيسير والتسهيل، والتوسُّع فيه، ورفع الحرج؛ فالمهر - مثلاً - الذي يُعدُّ من ضروريات النكاح : جاءت الشريعة فيه بالتخفيف، إلى درجة قد تصل إلى حدِّ الرمزية فقط، فقد أقرت من المهور : خاتم الحديد، والنعل، والتعليم، كما أقرت تأجيله بأكمله؛ إذ مقصود الشارع الحكيم هو النكاح، وحصول النسل، والمهر - على أهميته - ليس إلا سبباً في النكاح، وتقديراً للمرأة، وسبباً في دوام العشرة، وليس هدفاً في ذاته .

وعلى الرغم من أن مسألة الكفاءة في النكاح لا ترقى في أهميتها إلى حكم المهر وضرورته للنكاح : فإن الشريعة لا تعتبر الكفاءة بين الزوجين شرطاً في صحة  النكاح، فإن النكاح بين مسلم ومسلمة، بشروط الشريعة، مع انعدام الكفاءة بينهما : صحيح؛ إذ لم تجعل الشريعة السمحة انعدام الكفاءة بين الزوجين عائقاً للنكاح، وإنما أقرَّتها تطييباً للنفوس التي لا تطيق التنازل عنها، فهذه زينب بنت جحش رضي الله عنها، على جلالة قدرها، وعظيم شأنها في الإسلام لم تكن على وفاق مع زوجها زيد بن حارثة رضي الله عنه من جهة الكفاءة، حتى اضطر إلى طلاقها، فإذا كانت النفوس الزكية، التي تربَّت على عين الرسولr ثقل عليها التنازل عن حق الكفاءة فكيف الشأن بغيرها، ولا سيما في هذا الزمان الذي غلبت فيه الأهواء، وتعلق غالب الناس بحظوظهم من الدنيا، وأبَوْا التنازل عن حقوقهم؟ .

 وتجدر الإشارة هنا إلى أن الكفاءة مطلوبة في الرجل خاصة دون المرأة؛ لأن المرأة مهما علت مرتبتها فهي بصورة دائمة تحت سلطان الرجل وقوامته، والرجل - في الجانب الآخر - مهما كان وضيع المقام فإنه صاحب القوامة الأسرية، فكان لا بد للقائم على الأسرة أن يفوق من تحته؛ فإن المرأة تأنف أن يقودها من هو دونها في المرتبة، فإذا تنازلت المرأة وأسرتها عن حقِّهم في الكفاءة فإن الشريعة لا تقف في وجه زواج فقد الكفاءة في الرجل، إلا أن يكون فاسقاً، فإن الفاسق لا يكون كفأً للصالحة من النساء، إلا إن شابهته في فسقه .

والكفاءة في النكاح بين الزوجين لا تقتصر على مسألة شرف النسب أو المكانة الاجتماعية، أو الثروة المالية؛ وإنما تتعداها إلى مسائل جديدة، أصبحت في عرف الناس اليوم من الكفاءة المطلوبة مثل : التقارب بين الزوجين في السن، وقضية التعليم، ودرجة الجمال، والصحة البدنية والنفسية، إلى غيرها من المسائل التي يمكن أن تدخل ضمن مفهوم الكفاءة، وتكون أحياناً شرطاً اجتماعياً أو عرفياً يحول - في حال غيابه - دون حصول الزواج .

ولقد تواترت الوقائع الاجتماعية، والخبرات الواقعية، والدراسات الميدانية الحديثة، والأخبار التاريخية على حقائق في مسألة الكفاءة بين الزوجين من أهمها :

1-    تواطؤ غالب الناس على طلب الكفاءة في الرجل دون المرأة؛ إذ يستحبون أن يكون الرجل أرفع قدراً من المرأة بكل حال، وفي جميع جوانبه الشخصية .

2-         غالب الأنكحة تتم مراعية التجانس والتقارب بين الأسر في المستوى الاجتماعي والثقافي والاقتصادي .

3-    تراعي الأسر مسألة التقارب بين الزوجين في السن، مؤكدة أهمية تقدم الرجل على المرأة ببضع سنوات، في الوقت الذي ترفض فيه التفاوت الكبير في السن، وتقدم المرأة على الرجل في السن .

4-         تؤكد الأسر أهمية تفوق الرجل على المرأة في الدرجة العلمية، مع ضرورة أن يكون متعلماً .

5-         تواطأت رغبات الناس على استحباب تفوق المرأة على الرجل في جمال الصورة .

6-    تولي الأسر - بصورة عامة - أهمية سلامة الزوجين من الأمراض الوراثية والمعدية، وتفضل في الزوجين تمام الصحة الجسمية والنفسية، والسلامة من العاهات الظاهرة والباطنة، ولا سيما في المرأة؛ لكونها موضع استمتاع بطبيعتها الفطرية .

7-    أثبت الزواج من خارج البيئة الاجتماعية إخفاقه في غالب الحالات الزواجية، ولا سيما مع اختلاف الجنسية، واللغة، والوطن، والديانة .

8-    يتعذر على الشخص - رجلاً كان أو امرأة - التخلص من خلفياته الثقافية، وعاداته الاجتماعية، وموروثاته البيئية، التي تكوِّن شخصيته، وتُلحُّ عليه من وقت لآخر في اختيار أسلوب حياته، وتسعى بصورة لا شعورية في تكوين وتوجيه دوافعه، وبناء قيمه ومبادئه، التي تؤثر في مجموعها على علاقته الزوجية .

9-    يحتاج الزواج في حال انعدام الكفاءة، أو ضعف حضورها إلى حجم كبير من التضحيات، والتنازلات، والصبر من الطرفين، ويقدر حجم هذه التضحيات بقدر انعدام أو ضعف درجة الكفاءة بين الزوجين .

10-    رغم انحطاط بعض الأمم والقوميات فإن الكفاءة لا تزال مطلوبة في كل عصر، ومرغوباً فيها، إلا أن طلبها يتفاوت قوة وضعفاً من قوم إلى قوم .

وعلى الرغم من أهمية قضية الكفاءة في حياة الناس، ومراعاة الإسلام لهذا العرف فإن الظروف الاجتماعية المعاصرة، التي أفضت إلى تأخير سن الزواج، وظهور العزوبة في الجنسين، وكثرة العوانس من الأرامل والمطلقات، ومن الأبكار اللاتي تقدمن في السن، مما قد يفضي إلى مخاطر أخلاقية مزعجة للمجتمع، ولا سيما ضمن ظروف الحياة المعاصرة التي انفتح فيها العالم بعضه على بعض، وكثرت فيها الملهيات، والفتن، وقلَّ فيها الوازع الديني، وضعفت معاني التقوى، فإن هذا الواقع الملح يُملي على المجتمع التنازل عن الكفاءة في الرجل بصورة كلية أو جزئية؛ بحيث تقتصر على شرط الإسلام، على ألا يكون قد اشتهر بفسق، أو بدعة غليظة، فإن الزوجة تتضرر غاية الضرر بالفاسق أو المنحرف في عقيدته، والعزوبة - على ما فيها - خير لها منه، على ألا يكون هذا المقترح أمراً عاماً، وإنما لكل حالة طبيعتها وظروفها، التي يقدِّرها أهل الزوجة، فالفتاة الجريئة، التي يُتوقع منها الخطأ لو ألحَّت على الزواج من فتىً ليس بكفء لها : فإن إجابتها لطلبها أولى من عنادها، في الوقت الذي يختلف فيه الأمر مع فتاة مطاوعة، غلب عليها الحياء .

وخلاصة الأمر أن الشريعة السمحة تُقر العرف الاجتماعي الذي يراعي الكفاءة بين الزوجين، ولا سيما في الرجل، رغبة في دوام العشرة، وحصول الألفة، إلا أنها لا تعتبرها شرطاً لصحة النكاح، وقد يكون التنازل عنها بصورة ما في ظروف الحياة المعاصرة أمراً مستساغاً إذا كانت تحول دون تحقيق مقصد الشارع الحكيم الذي يقصد إلى النكاح كهدف أسمى، في حين لا ترقى قضية الكفاءة - في الجملة - درجة التحسينيات، أو الحاجيات على أقصى تقدير .