الصفحة الرئيسة @ المقالات التربوية @ التربية الزوجية للفتاة @ 12ـ ضرورة اقتناع الفتاة بالخاطب
إن من حق الفتاة المسلمة أن تُستشار في زواجها، ولها أن ترد الخاطب، إلا أن كثيراً من العلماء أجاز للأب أو الجد خاصة : إجبار الفتاة البكرعلى النكاح، إذا كان الخاطب كفأً لها، موسراً بمهرها، ليس بينه وبين الفتاة عداوة، فقد زوَّج كثير من الصحابة بناتهم صغيرات دون استشارتهن، إلا أن الفتيات في العصر الحديث - خاصة المتعلمات منهن - يشعرن بحقهن في ردِّ الخاطب، ويعتبرن الإجبار على التزويج : أعظم مشكلاتهن الاجتماعية على الإطلاق؛ لهذا مال بعض العلماء - في القديم والحديث - إلى أن إذنها ضروري حتى وإن كانت بكراً؛ تجنباً للسلبيات التي يمكن أن تقع؛ فقد أسفر البحث الميداني الحديث على وجود علاقة إيجابية بين كثرة حالات الطلاق وبين عدم استئذان الفتيات عند الزواج، إلى جانب ثبوت ردِّ رسول الله r لنكاح عدد من النساء المكْرهات على الزواج .
وعلى الأولياء أن يعرفوا : أن في إجبار الفتيات على من يكرهن من الرجال: عنتاً شديداً عليهن، وحرجاً لصدورهن، وربما ساق إحداهن الضِّيق والظلم : إلى محظورات سلوكية لا يرضاها الأولياء، كأن تترك الطعام حتى تبدو نحيلة لا تصلح للزواج، أو تستعين بالأجانب لرد ظلم أوليائها عنها، أو ربما اندفعت إلى سلوك فاضح يجلب العار على أهلها ويشينهم في المجتمع، فقد هددت أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما إذا هي زُوِّجت كارهة : أن تخرج وتصيح عند قبر رسول الله r، فلا يحق للأولياء أن يسوقوا الفتيات إلى مثل هذا السلوك المستهجن، حتى وإن رددن الكفء، فإن هذا من حقهن وليس من العقوق للوالدين، وفي الحديث : (( لا تحملوا النساء على ما كرهن ))، ثم إن على الأولياء أن يدركوا أن عقد الزواج في نظام الإسلام الاجتماعي يقوم أساسه على الحرية والاختيار الطوعي وتبادل الحقوق، وليس هو عقد تملُّك، تصبح به المرأة ملكاً للرجل حين يعقد عليها، ومع هذا فإن من حق الولي - حين يحضر الكفء المناسب - أن يقنع الفتاة به، ويلحَّ في ذلك عليها دون إجبار .
ويمكن للأولياء من خلال سلوك الفتاة : أن يعرفوا رفضها للخطبة؛ فإن لها وسائلها الخاصة للتعبير عن كرهها واعتراضها : فإنها قد تبكي بصوت مرتفع، أو تضحك مستهزئة، فيُعلم بذلك أنها غير راغبة، وكان نهج المصطفى عليه السلام : أن يجلس إلى خدر الفتاة، ويذكر الرجل الذي خطبها، فإن سكنت : زوجها، وإن تحركت : علم كرهها، فلم يزوجها، وذلك بشرط علم الفتاة المسبق : بأن سكوتها يعني موافقتها .
ولما كان للأمهات دور كبير في اختيار الفتيات، حيث يتأثرن بآرائهن، وتوجيهاتهن، فقد وجَّه الرسول r لاستشارتهن، فرُوي أنه قال : (( آمروا النساء في بناتهن ))، وكان السلف يعملون بهذا التوجيه، ويستشيرون الأمهات؛ لأنهن يشاركن في النظر للفتاة، ويسْعَيْن عادة لتحصيل المصلحة لهن؛ لكمال شفقتهن ورحمتهن بالبنات .
وفي الجانب الآخر لا يحق للأولياء عضْلُهن إذا جاء الكفء، فقد عدَّ بعضهم العضل من الكبائر، وقد رُوي عن رسول الله r أنه قال : (( إذا جاء الأكفاء فانكحوهن، ولا تربصوا بهن الحِدْثان )) ، فلا يحق للولي حبس الفتاة لابن عمها، أو قريب لها - كما تفعل بعض المجتمعات - ما دامت كارهة له، أو منع الصغرى من الزواج قبل الكبرى، فإن كل هذا من الظلم الاجتماعي للفتيات .
وقد يحصل من الفتاة - خاصة في ظروف الحياة الاجتماعية المعاصرة - أن تدعو وليَّها ليعقد لها على شخص ما، فإن كان كفأً وجب عليه العقد لها، فإن أبى عقد لها السلطان بالإجماع، وإن لم يكن كفأً فلا يجب عليه العقد لها، مع جواز النكاح والحالة هذه، إلا أن الوقائع المتعددة دلَّت : على أن الزواج الذي يتم رغماً عن الأولياء، تحت ضغط إلحاح الفتيات، واختيارهن الشخصي لأنفسهن، دون رغبة الأولياء، وبعيداً عن نظرهم : غالباً ما يكون مصيره الإخفاق .
ولعل الراجح في المسألة في ظروف الحياة الاجتماعية المعاصرة هو نظر الولي : فإن ظن أن رفضه للنكاح يؤدي إلى المطلوب من صرف الفتاة عن الشاب غير الكفء : فهذا هو الأولى، وإلا فإن إجابتها والنزول عند رأيها أولى، فإن تزويج الفتاة بالمفضول الذي تحبه ويحبها أفضل من تزويجها بالفاضل إذا كانت لا ترغب فيه، ولا سيما في هذا الزمن الذي تجرَّأ فيه كثير من الفتيات حتى بلغ ببعضهن الهروب مع الشباب من أجل الزواج، أو ربما تعاونت مع صاحبها في جناية ضدَّ من يقف في طريق زواجها من الأولياء، وأعجب من هذا ما شهد به الواقع الحديث أن تعشق إحداهن رجلاً من غير دينها، فتهرب معه وتتزوجه، وأعجب منه وأغرب في شأن العاشقات حين يُعمي العشق أبصارهن : ما حصل من إحدى الأميرات العربيات، حين عشقت رجلاً نصرانياً، فهربت معه إلى بلاده وتزوجته، ثم تنصَّرت مرتدة، وغيرت معالم هويتها . ولعل أقلَّ ما يمكن أن يصدرعن مثل هؤلاء العاشقات هو الاحتيال على أهلها حتى تتزوج بمن تحب وترغب فيه، فإن عجزت عن الوصول إلى محبوبها ربما تحولت إلى ذاتها فأهلكتها، كما حصل من إحداهن - في إحدى البلاد العربية - حين حُرمت من لقاء محبوبها فانتحرت .
إن المرأة المفتونة إذا أحبَّت ولم تصل إلى مطلوبها : أظهرت من الأمور والسلوك ما لا يُستحسن، وأقل ما يمكن أن يحصل لها : هو المرض بسبب الوقوع في العشق والهيام؛ ولهذا كان نهج السلف الجمع بين المُحبين، والشفاعة في ذلك، لعلمهم أن العشق لا علاج له إلا بالوصال، وأن اجتماع المحبين أعظم الملذات على الإطلاق، وفي الحديث : (( لم يُر للمتحابَيْن مثل النكاح )). وقد سعى عليه الصلاة والسلام بين بريرة وزوجها رضي الله عنهما لعلمه بحبه الشديد لها، وكان يقول فيما رُوي عنه : (( من أفضل الشفاعة : أن يشفع بين اثنين في النكاح )) ، ولما علم أبو بكر ووزيره عمر بميل عبدالرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنهم جميعاً - إلى فتاة من السبايا : دفعوها إليه، وكانت عائشة رضي الله عنها إذا علمت بميل فتاة من قريباتها نحو فتى من الشباب : سعت لتزويجهما، وعلى هذا النهج في الجمع بين المحبين سار العقلاء، رغبة في منع الفتنة، وتوقي حصول ما هو أشد من السلوكيات المنحرفة .
ومن ألطف أخبار العشَّاق أن سرية في زمن الرسول r انتصرت وغنمت، وكان في القوم رجل ليس منهم إنما جاء للقاء امرأة من القوم يعشقها وتعشقه، فاستأذن المسلمين في النظر إليها، فأذنوا له، ثم قدَّموه فقتلوه، فلما رأت المرأة ما فُعل بعشيقها شهقت فماتت عندها، فلما قدموا المدينة على رسول الله r، وأخبروه الخبر قال : (( أما كان فيكم رجل رحيم ؟ )) .
ومن المستحسن لضمان معرفة رغبة الخطيبين في الخطبة، وقناعتهما الكاملة بالنكاح : أن تكون هناك فترة زمنية بين العقد والدخول بالزوجة : يتعارف فيها الخطيبان بصورة مشروعة، ويختبر كل منهما صاحبه عن قرب، فإن بعض الفتيات في أول حياتهن الزوجية يُصبن بخيبة أمل، عندما يُواجَهْن بحقيقة الأزواج، ومغايرتهم للصورة الخيالية المثالية التي رسمْنها في أذهانهن، فتكون فترة الخطوبة بعد العقد فسحة زمنية مشروعة، تتأقلم فيها الفتاة مع الواقع الحقيقي، وتتهيأ لطبيعة زوجها، وتشعر به عن قرب .
وقد ثبت من خلال البحث الميداني أن كثيراً من الشباب من الجنسين يميلون بصورة غير مشروعة إلى التعارف قبل الزواج، ويجدون في المجتمع المسلم من يبرر لهم من الوجهة الفقهية هذا المسلك المنحرف، في حين يسلك بعض الفتيات المتعلمات هذا الأسلوب بطريقة شرعية عفوية، حيث يُعقد عليهن عقداً شرعياً، ويمكثن فترة الخطوبة للتعارف، فإن رضين النكاح : أمضين العقد، وإن كرهن ذلك: سعين في الفراق، فيقمن بالأسلوب المشروع المقترح، ولكن بطريقة عفوية.
وقد دلَّ الواقع أن طول فترة الخطوبة مفيد للزوجين، وأدعى للتوافق بينهما والتفاهم، وقد أشارت بعض الدراسات أن الفترة المقترحة والمناسبة لذلك : تسعة أشهر، وهي عين الفترة التي قضاها علي وفاطمة رضي الله عنهما بين العقد والبناء، فلا ينبغي أن تزيد عن هذا، لما قد يُسببه طول المكوث من ظهور مشكلات جديدة، أو محظورات سلوكية غير مستحسنة، ولو حصل التوافق بين الخطيبين فيما هو أقل من هذه المدة فإن الزيادة لغير حاجة لا تخدمهما في شيء إلا مزيداً من العنت والحرمان .