الصفحة الرئيسة @ المقالات التربوية @ التربية الجسمية للفتاة @ 21ـ الفتاة المسلمة والرياضة البدنية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، أكمل الناس خَلْقاً وخُلُقاً، وأعلاهم شرفاً ونسباً، وأصحِّهم عقلاً وجسداً، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، فما من درب خير إلا أرشد إليه، وما من طريق شر إلا وحذَّر منه، قعَّد قواعد الدين، وسنَّ سنن الهدى، فكان هديه خير الهدي، ونهجه أفضل المناهج، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد…فإن المتأمل في واقع الحياة المعاصرة يجد الاهتمام البالغ،والرعاية المحلية والدولية بالشؤون الصحية، وما يرتبط بها من محاربة الأمراض، والاهتمام بوسائل العلاج، وإصلاح البيئة، وتحسين التغذية، وتطوير الأدوية والتقنية الطبية، وما يلحق بذلك من التوعية الصحية، والإرشادات الطبية، والتطعيمات ضد الأمراض المعدية، والتوسع في فتح المصحَّات الطبية، والمراكز الصحية، وإعداد المتخصصين والفنيين في جميع التخصصات الصحية المختلفة، حتى غدت قضية الصحة البدنية مطلباً حضارياً وضرورياً عند الأمم المعاصرة على تفاوت بينهم؛ فإن دولاً، وشعوباً، ومجتمعات بأكملها لاتزال في نهاية القرن العشرين، وبداية القرن الواحد والعشرين قابعة في مثلث الموت: المرض، والفقر، والجهل، لا تكاد تخرج من أزماتها الحضارية حتى تقع فيما هو أشد وأصعب، وكأنها تدور في حلقات مفرغة، لا تهتدي إلى سبيل الخلاص.
وقد ترافق مع هذا الاتجاه العالمي نحو الاهتمام بالشؤون الصحية اتجاه آخر يوازيه، ويسير في محاذاته وهو: الاهتمام بالوقاية الصحية، باعتبارها وسيلة مهمة في إغناء الإنسان عن كثير من العلاج، مما يوفِّر الجهد، ويرشِّد الإنفاق، ويحقق للإنسان المتعة والسعادة بأقل تكلفة، وأيسر جهد، فازدهرت في هذا الوقت أساليب التغذية الصحية، وما يتعلق بها من تنظيم الغذاء، والتدريب على حسن اختياره، وانتشرت المعارف الصحية، والثقافة الطبية، التي ترشد الأصحاء- قبل المرضى- للمحافظة على أجسادهم صالحة دون أذى، وتطوَّرت أساليب استشراف مستقبل الإنسان الصحي، فوضعت برامج طبية للكشف الصحي الدوري، والكشف الصحي قبل الزواج، حتى غدت حياة الإنسان المعاصر في المدن الحضارية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمسألة الصحية، وأساليبها الوقائية.
وتأتي الرياضة البدنية لتحتل ساحة ضخمة ومهمة في برامج الوقاية الصحية، باعتبارها علامة من علامات الصحة، ووسيلة فعَّالة ناجحة للترقي بالإنسان في مراتب التفوق البدني، حتى إنها - في كثير من الأحيان - لتسبق بالإنسان نحو السلامة الصحية أسرع مما يسبق به كثير من الغذاء والدواء، فقد أصبحت ممارسة أنواع من الرياضات البدنية جزءاً أصيلاً في علاج بعض الأمراض المتعلقة بزيادة الوزن، والإصابات الجسمية، والجلطات الدموية ونحوها من الأمراض، إضافة إلى كونها وسيلة فعَّالة في تأهيل بعض المرضى في فترة النقاهة لاستئناف حياتهم العملية من جديد؛ ولهذا ازدهرت في هذا الوقت المراكز الرياضية، والأندية التأهيلية، حيث يجد فيها المحتاجون للحركة البدنية مرادهم من : الأجهزة والوسائل والتدريب والإشراف ما يُعينهم على تجاوز أزماتهم الصحية، في وقت قلَّت فيه حركة الإنسان اليومية؛ حين نابت عنه الآلة الصناعية في كثير من أعماله البدنية.
وعلى الرغم من فوائد الرياضة البدنية للجميع، ولاسيما لبعض فئات المجتمع من المحتاجين لها فقد توجهت الرياضة الحديثة بمفاهيمها الجديدة إلى ما هو أبعد من مجرد الصحة البدنية بكثير، حين توسع مفهوم الرياضة ليشمل أنواعاً لا تكاد تحصى من الألعاب والأنشطة الإنسانية المختلفة، ويستقطب في برامجه كل فئات المجتمع، فالرياضة الحديثة قد تجاوزت بمفاهيمها المعاصرة مبدأ الممارسة العملية، باعتباره هدفاً رئيساً، وغاية ضرورية من غايات الرياضة إلى أن تصل بمفهوم الرياضة إلى المعنى التجاري الاستثماري، فتصبح الرياضة سلعة استهلاكية يتَّجر بها المستثمرون المتربِّصون بحاجات الناس ومتطلباتهم، فراجت تجارة اللاعبين، والمقامرة المالية، والدعاية الإعلامية، والشهرة العالمية، والثقافة الرياضية، ومتعة التفرج، وأقيمت المنشآت للمنافسات الدولية، ونحوها من القضايا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي لا علاقة لها أصلاً بمبدأ الرياضة البدنية.
ولم تكن المرأة في غالب مجتمعات العالم - بما فيها غالب المجتمعات الإسلامية - بمعزل عن هذا الوضع الاستهلاكي والتجاري، فقد خاضت في غالب ما خاض فيه أفراد المجتمع من حولها، واستُغلَّت كما استُغلَّ غيرها، فاتُّجر بالفتاة الرياضية وبجسدها، واستمتع المشاهدون عبر الشاشات، وفي المنشآت الرياضية بقوامها ورشاقتها، ولطيف حركتها، وقُدِّمت الفتاة الرياضية نموذجاً لبنات جنسها، في كمال قدرتها الجسمية، ورشاقة قوامها، وتمام صحتها، وقُدِّمت للمجتمع بصفتها نموذجاً للفتاة المواطنة الصالحة, الممثلة لبلادها في المنافسات الدولية والإقليمية، حين أبدعت وحازت على شيء من ميداليات التفوق في المنافسات الرياضية.
إن واقع الرياضة العالمي، بكل ما تحويه من التفاعل الحركي، والتنافس الدولي، والاستهلاك الثقافي، والمتعة الشخصية، والممارسة الواقعية : لا تزيد - في المفهوم الإسلامي - عن كونها مصلحة كمالية في غالب الأحوال، لا يجوز أن تتعارض مع مصلحة حاجية، فضلاً عن أن تتعارض مع مصلحة ضرورية وإلا أصبحت محرمة شرعاً، وواقع الممارسات الرياضية، وما يلحق بها من أنشطة وألعاب ومنافسات ومخاطرات، وما يتخلل ذلك من مفاسد أخلاقية كالتبرج في النساء، والاختلاط بين الجنسين، والمقامرة المالية، وما يتبع ذلك من تضييع للواجبات، ووقوع في المحرمات، كل ذلك، بل بعضه : ينقل هذه الممارسات الرياضية من الإباحة إلى الكراهية وإلى التحريم، بل إلى ما هو أشد من ذلك من الكبائر والموبقات القبيحة، التي حذر الشارع الحكيم منها، وتوعَّد أصحابها بالعقوبة الشديدة، ولهذا يُلاحظ أن حق ممارسة الفتيات للرياضة ليس إجماعاً اجتماعياً، فلا يزال كثير من أفراد المجتمع يأبون ذلك على الفتيات حتى في المجتمعات التي يقل فيها الالتزام الديني.
ولئن كانت هذه القبائح السلوكية المتعلقة بالرياضة ممنوعة على الجنسين من الذكور والإناث : فهي في حق الإناث أشد وأغلظ؛ لما هو معلوم في الشريعة من الاحتياط في شأن الأنثى من جهة : لزومها الحجاب، ولفْتها إلى البيت، وبعدها عن الاختلاط بالأجانب، ودورها الرئيس في الإنجاب ورعاية النسل، ولا شك أن ممارسة الفتيات للرياضة البدنية ضمن هذه الظروف والأحوال المعاصرة التي لا تنضبط بالضوابط الشرعية، ولا تعتد بالآداب المرعية، ولا تراعي طبيعة الأنثى ودورها الفطري والاجتماعي : تعد ممنوعة شرعاً، لمعارضتها للقيم والمبادئ والآداب التي أمر بها دين الإسلام.
ومن هذا المنطلق فإنه لا بد من وضع الضوابط اللازمة لإحكام ممارسة الفتيات للرياضة البدنية، ضمن حدِّ السلامة في : أخلاقها، وأنوثتها، ونفسيتها، وجسمها، وفكرها؛ بحيث تستفيد الفتاة من ممارستها للرياضة دون الوقوع في الحرج الشرعي، الذي يُلْحقها ويُلْحق المسؤولين عنها الإثم والخطيئة، مع محاولة إعادة مفهوم الرياضية البدنية إلى معناه الصحيح وهو : "القيام بحركات خاصة تكسب البدن قوة ومرونة"، أو هو: "تليين البدن وتذليله وتطبيعه لأداء مهمات معينة"، فلا بد أن يعود هذا المعنى الصحي لمفهوم الرياضة البدنية للفتيات، مع التخلص من متعلقات الرياضة التي ساقتها إلى الميدان الاستهلاكي والاستثماري التجاري، وصبغتها بالطابع غير الأخلاقي، وأضفت عليها صفة العنف والتوتر، الذي يأباه الإسلام للإنسان عامة، وللإناث خاصة.