الصفحة الرئيسة @ المقالات التربوية @ التربية الاقتصادية للفتاة @ 21ـ الدور الأخلاقي والاقتصادي لتوطين عائلة الفتاة الريفية


معلومات
تاريخ الإضافة: 24/8/1427
عدد القراء: 3136
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

تظهر أهمية التنمية الاقتصادية الأسرية في استقرار عائلة الفتاة الريفية وتوطينها، بحيث لا تضطر تحت وطأة الحاجة الاقتصادية وضعف الخدمات العامة في الريف للنزوح إلى المدن، فإن المدينة العصرية مع ما تتصف به من بريق الحضارة، وتتمتع به من الوفرة المالية، والخدمات المدنية، وفرص العمل: فإنها تتسم -في كثير من الأحوال- بالضعف الأخلاقي العام، وصراع القيم والمعايير، وكثرة الحركة والاضطراب، وتأخر سن الزواج، إلى جانب عوامل أخرى لا تتناسب وطبيعة نشأة الفتاة الريفية؛ حيث تهيء لها المدينة بصخبها ظروفاً أكثر للانحراف من حيث التفاوت المالي بين النازحين الريفيين وأبناء المدن، وتشتت كيان الأسرة الريفية، والتكدس الشعبي على هوامش المدن الحضارية، ووفرة فرص تعاطي المخدرات،والسلوك الإجرامي، واحتراف البغاء؛ فإن غالب البغايا يأتين من الأرياف تحت وطأة الحاجة والفقر؛ فإن العلاقة قوية بين الفقر واحتراف البغاء، والمتاجرة بالنساء -على قدمها- فإنها اليوم في المجتمعات المتحضرة أوسع ما تكون؛ لذا فإن "الهجرة لا تعني الانتقال من القرى والبادية، أو مجرد تغيير في الإقامة أو الحركة من منطقة إلى أخرى؛ بل تنطوي على أبعاد أكثر أهمية، إلى تغيير شامل للحياة، وارتباطات جديدة للمهاجر في المجتمع الجديد".

هذا إلى جانب ما يسببه هذا الزحف الريفي من تضخم لحجم المدن، واستنزاف شديد لطاقاتها المحدودة من الخدمات العامة، دون مردود اقتصادي إيجابي من أبناء الريف العاطلين، الذين يسهمون بصورة غير مباشرة في تنامي مشكلة الفراغ، التي تزداد حدَّتها مع زيادة معدلات الهجرة الريفية، ولهذا كانت بريطانيا في السابق حريصة في بعض فترات الكساد الاقتصادي: على تشجيع عودة النازحين إلى قراهم الريفية حفاظاً على أمن المدن واستقرارها من فوضى العاطلين الريفيين.

والعجيب أنه مع هذه السلبيات الأخلاقية والاقتصادية الكبيرة للمدن الحضارية المعاصرة: يبقى الريف الطبيعي على فطرته بعيداً إلى حد كبير عن هذه المظاهر الانحرافية، والأزمات السلوكية؛ فوقت الفراغ الذي يشكو منه أبناء المدن يكاد ينعدم عند الفتاة الريفية، ومشكلة العنوسة وتأخر سن الزواج لا تعرفهما الأسرة الريفية، وأزمتا المخدرات، وجُناح الأحداث تقلان بصورة مطردة كلَّما قلَّ عدد السكان، وقربت مساكنهم من القرى والأرياف، إلى جانب رسوخ العادات والتقاليد في المجتمع الريفي، واستقرار الأسرة في صور من التكتلات المتماسكة المترابطة، التي تشيع بين أفرادها مظاهر التعاون الاقتصادي، الذي يُسهم فيه النساء والفتيات بفعالية كبيرة؛ حتى إن إنتاجهن الغذائي يُقدَّر بخمسين في المائة من إنتاج العالم، وربما وصل في إفريقيا وحدها إلى (90%) ويستمتعن -في بعض المناطق- بملكية ربع الأراضي تقريبا، وأقل ما يمكن أن تعمله الفتاة الريفية الساذجة لتبقى ضمن عناصر الإنتاج: أن ترعى الماشية كما هو معلوم عند الريفيين العرب، فالفتاة في الريف منتجة في كل أحوالها، ولم تعرف السلبية الاقتصادية إلا بعد انتقالها إلى المدينة، وامتهانها العمل المؤسسي.

إن السبب الرئيس في بروز ظاهرة الهجرة الريفية الحديثة هو المشكلة الاقتصادية، في عدم توزيع الثروة والمشاريع والبرامج التنموية بصورة عادلة بين المناطق، مما أسهم بقوة في تخلف الريف، وازدهار المدن، حيث الثروة المالية والنهضة الصناعية التي عمَّت المناطق الحضرية، وأغرت الريفيين بفرص العمل والمدخول الجيد، وحاربتهم في الوقت نفسه بتطور الآلة الزراعية التي أغنت عن كثير من العمالة الريفية، ولما كان أهل الريف أكثر الفئات الاجتماعية تضرراً بالبطالة: قامت الهجرات الجماعية نحو المدن، مخلِّفة وراءها من لا يستطيع السفر من العاجزين وكبار السن وغالب النساء، حتى إن حجم النازحين يشكل في العالم الثالث ما بين 30-55% من سكان بعض المدن الحضرية، يبحثون في المدن وعلى هوامشها عن قوتهم وقوت أولادهم ونسائهم، فكان نصيب الفتاة الريفية النازحة - في الغالب- أحقر الأعمال وأكثرها إرهاقاً وتعرضاً للفتن، مما جعلها في كثير من الأحيان موضعاً رخيصاً للاتجار الجسدي.

إن توطين العائلة الريفية -والحالة هذه- ليست مسألة اختيارية إذا عُلم أن غالب سكان العالم يقطنون الأرياف، منهم (80%) من سكان البلاد النامية، حيث تمثل المرأة العربية الريفية (70%) من مجموع نساء البلاد العربية المسلمة، مما يجعل مسالة التوطين الريفي بالنسبة للنساء والفتيات على الخصوص قضية حيوية في غاية الأهمية.

ثم إن السعي الجاد في توطين العائلة الريفية لا يتحمل التأجيل؛ فإن النزوح من الأرياف نحو المدن ظاهرة عالمية عنيفة وسريعة، تنذر _ إذا استمرت - بخلو الأرياف من أهلها، وحصول أزمات عامة في المدن الحضرية يصعب حلها والسيطرة عليها، فعلى الرغم من أن الإحصائيات في الماضي تشير إلى أن أغلب الناس -لاسيما النساء- يحيون في الأرياف، فإن تقارير عام 1990م تشير إلى تدني نسبة سكان الأرياف إلى 57% من مجموع السكان، وأما تقارير عام 2000م فتشير إلى أن 31% فقط من سكان الدول العربية يسكنون الأرياف، وهذه لا شك ظاهرة حضرية خطيرة، تنذر بخلل في التركيب البشري بين المدن والأرياف،وما قد يترتب على هذا الخلل من أزمات: اجتماعية وأخلاقية واقتصادية عنيفة.

وعلى الرغم من ميل الفتيات النازحات نحو الاستقرار في المدن، وعدم رغبتهن مطلقاً في العودة إلى أريافهن التي نشأن فيها، فإن سياسة توطين الفتاة الريفية تبدأ بتعديل مفاهيم التحضير في أذهانهن من كونها مجرد انتقال من الريف إلى المدينة، أو انخراط متكلَّف في سوق العمل، أو بروز مشين في الحياة العامة: إلى كون التحضير تغييراً إيجابيا في التفكير والسلوك، والاتجاهات المتعلقة بالعمل والإنتاج؛ بحيث تصبح الفتاة عضواً منتجاً في كل أحوالها حيثما كانت، ومن ثمَّ دعم عائلتها بأسباب الاستقرار في الريف من خلال: توفير الخدمات العامة، وفتح مجالات استثمار صناعية تتناسب مع طبيعة الحياة الريفية، مع دعم مجالات الاستثمار المحلية كالإنتاج الحيواني، والاستثمار الزراعي على الطريقة النبوية في إحياء الأراضي وتمليكها وتوزيع المياه، بحيث تُستغل الأراضي الصالحة والطاقات البشرية المتاحة كأقوى ما يكون، فلا يُسمح بالاحتكار لأحد من الناس دون استثمار، مع ضرورة استخدام الإدارة اللامركزية لدعم سلطات الريف المحلية لتستقل بعض الشيء بقراراتها عن سلطة المدينة، فتتهيأ للعائلة الريفية من جملة هذه الوسائل أسباب الاستقرار في الموطن الأصلي دون حرج الانتقال إلى المدن، ومعاناة مشكلات الهجرة الاقتصادية والأخلاقية.

وقد صدر عن ندوة الخبراء المنعقدة عام 1415هـ بطهران، حول دور المرأة في تنمية المجتمع الإسلامي: التوصية بما يدعم هذه الوجهة ويؤيدها، فقد جاءت عن الندوة التوصية التالية: "التركيز الصحيح على المهم للمرأة الريفية في الإنتاج والتنمية، وتسهيل حصولهن على الموارد الضرورية من بينها الأرض والقروض، والأسعار المؤمنة والتسويق، ودعم روابط وجماعات المرأة الريفية والحضرية باعتبارها آليات لتقدمهن الاجتماعي والاقتصادي والثقافي".