الصفحة الرئيسة @ المقالات التربوية @ التربية الاقتصادية للفتاة @ 19ـ دور الصناعات المنزلية في التنمية الاقتصادية


معلومات
تاريخ الإضافة: 24/8/1427
عدد القراء: 3454
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

الصناعات المنزلية أقدم صناعات الإنسان التي رافقته عبر مراحل تطوره الاقتصادي، واستثمرت معه حتى ظهور أنظمة المصانع الحديثة، حيث "كانت تجري عمليات الصنع في منازل العمال، وكانت هذه العمليات تتم يدوياً في معظمها"، وقد شهد المجتمع المسلم -في الزمن الأول- ازدهار هذا النوع من الصناعات على أيدي النساء، وثبوت جدواها الاقتصادية، فقد شملت العديد من الصناعات مثل: الدباغة، والنسج، والغزل، والنقش، والصبغ، والخرازة، ونحوها من الصناعات المختلفة، وكانت المرأة المُتْقنة لصنعها من هؤلاء النساء، العارفة بأصولها تسمى: "صناع اليد: أي حاذقة ماهرة بعمل الأيدي".

وقد نجح هذا النوع من الصناعات في مساعدة النساء على الجمع بكفاءة بين مزاولة حرفهن الصناعية، وبين القيام بحق الزوج ومهام الأسرة؛ إذ لا يحق للزوج شرعاً أن يمنعها من مزاولة مهاراتها المباحة ما دامت تعمل ذلك في البيت، ولا تفوِّت حقاً له، بل لا يحق له أن يمنعها من إدارة تجارتها ما دامت تنطلق في إدارتها من بيتها، فقد أتاحت لها وسائل الاتصال الحديثة بأنواعها المختلفة فرص التعامل الاقتصادي بكل تفصيلاته من مكتب بيتها دون حرج، في حين تجد المرأة المعاصرة عنتاً شديداً في التوفيق بين دورها الأسري وبين عملها خارج نطاق منزلها؛ حيث يفرض عليها التصنيع والعمل الحديث أسساً جديدة تُغيِّر من وضعها الاجتماعي، فتنقل جهدها في عمليات التشغيل والإنتاج من المنزل إلى المصنع، وتُدخلها في حرج التعامل مع الرجال الأجانب.

وقد مرَّ على الصناعات المنزلية في أوروبا وبعض بلاد الشرق الأقصى فترة سادت فيها الحرف العائلية، والإنتاج الأسري قبل ظهور الآلة الأوتوماتيكية وتطورها، فقد كانت منتجات الصناعات المنزلية تعمُّ الدنيا وفرة، وتفرض نفسها جودة، حتى إنه لم توجد صناعة من الصناعات -حتى الثقيلة منها والكبرى- إلا كان للمنزل والمرأة دور في إنتاجها بصورة كلية أو جزئية؛ بل حتى بعد ظهور التجمعات الصناعية في أوروبا -في أول الأمر- فقد بقي للأسرة المنتجة دورها التنافسي مع هذه التجمعات تارة، والتعاوني تارة أخرى، حتى برز دور الآلة في السرعة والإتقان، وقلَّة التكاليف المالية، وعدم الحاجة إلى الخبرة العمالية الكبيرة، وظهر معها أرباب العمل من دهاة الاقتصاد، من الإقطاعيين القدماء والرأسماليين الجدد، الذين سيطروا على وسائل الإنتاج من خلال إحكام تجارة السوق، ومصادر المواد الخام، إضافة إلى امتلاكهم الآلة المتطورة، ففرضوا على صُنَّاع المنازل -كلَّ قادر منهم- أن يعملوا تحت أيديهم كأجراء، ضمن تجمعات صناعية كبيرة بعيدة عن المنازل، تجمع أخلاطاً من الناس: ذكوراً وإناثاً، وكباراً وصغاراً، ليس بينهم رابطة اجتماعية سوى العمل، فرغم ما حققته هذه النقلة الصناعية الحديثة -من المنزل إلى المصنع ومن اليد إلى الآلة- فقد خسرت في الجانب الإنساني أضعاف ما ربحته في الجانب المادي؛ حيث أضعفت من دور المنزل اقتصادياً، وشلَّته تربوياً، وعطَّلت طاقات بشرية كان يمكن أن تسهم في التنمية من خلال البيوت، وكرَّست الجميع لخدمة مصالح فئات قليلة من المحتكرين الاقتصاديين الذين مارسوا في سبيل جمع المال أشد وأبشع أنواع الظلم والخسف بالعمال، مع ما أحدثته الآلة المتطورة من سلب خبرات الصنَّاع، وإرهاقهم نفسياً بالعمل الروتيني السلبي الذي لا يجد فيه الصانع الماهر ثمار خبرته.

إن هذا الوضع الاقتصادي المأساوي لا يتناسب مع نظام الإسلام الاقتصادي الذي يحترم الإنسان، ويقدر جهده ضمن مناشط التنمية المختلفة، ويحميه نفسياً وخلقياً من كل ما يؤذيه، ولاسيما المرأة بطبيعتها الخاصة ودورها الاجتماعي الذي لا يتحمل قسوة العمل خارج المنزل؛ ولهذا يختفي ذكر دور النساء عند الحديث عن الصناعات الخارجية في التاريخ الإسلامي؛ لكونه أداء لا يناسب طبائع الإناث.

ومن هنا كان من الضروري إحياء الصناعات المنزلية وتطويرها لضمان مشاركة الفتاة وأعضاء الأسرة بصورة صحيحة في التنمية الاقتصادية الشاملة ابتداء من الصناعات اليدوية المألوفة الثابتة الجدوى: كالخياطة، والتطريز، والنسج، والجلود، وصناعة الفخار، والخزف، والزخارف ونحوها، ومروراً بالصناعات الغذائية الناجحة: كتعليب التمور، وحفظ الخضروات، وتمليح السمك، وتجفيف الفواكه، وعمل المخللات والمربيات وغيرها، وانتهاء بالصناعات التجميعية الحديثة لقطع الأجهزة الصغيرة، وشيء من أعمال الصيانة والإصلاح الآلي، وإنتاج قطع الغيار البديلة، التي أثبتت في الجملة جدواها الاقتصادية في الدول النامية أمام العديد من الصناعات الكبيرة ذات التقنيات العالية، مع ضرورة الاستفادة القصوى من فرص العمل المتاحة عبر شبكات الحاسب الآلي، والإنترنت التي تسمح للفتاة بالمشاركة الإنتاجية ضمن مكتب منزلها دون حرج، حيث تُتيح هذه الطريقة الحديثة في الولايات المتحدة وحدها أكثر من (40) مليون فرصة عمل.

ولعل من أهم وسائل إحياء هذه الصناعات: دعم الاقتصاد الأسري مادياً بالمساعدات المالية، والقروض الحسنة، ومعنوياً بالخبرات الاقتصادية في دراسات الجدوى، واقتراح  المشروعات الاستثمارية الآمنة الصغيرة والمتوسطة، التي تناسب وسائل الإنتاج العائلي، مع نقل بعض الحرف الخارجية إلى المنزل، والعمل على تطويرها فنياً لتناسب طبيعة العمل الداخلي، وتخرج عن طابعها التقليدي المتواضع ليصبح إنتاجها في حجم اقتصادي منافس، بحيث تُكيَّف بعض التقنيات الحديثة لاحتياجات المشروعات الصغيرة من خلال تطوير الآلة المنزلية تقنياً لتلبي بصورة سريعة ومتقنة حاجات السوق الاستهلاكية، وتعود في الوقت نفسه على الفتاة الصانعة وأسرتها بالوفرة المالية.

وهذا المقترح التقني لا ينبغي استهجانه؛ فإن التطور الآلي محكوم إلى حد كبير بالحاجة الإنسانية، والمعرفة التقنية باب واسع لا حدود له، فما قد يكون اليوم خيالاً قد يكون في القريب واقعاً حياً؛ ففي أوروبا رغم انتشار مصانع النسيج في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي بقيت صناعات الغزل المنزلية مزدهرة ومنافسة بسبب تطوير أحد العلماء لآلة الغزل المنزلية، فالآلة جوهر العمليات الصناعية الحديثة، فلا يستنكر في سبيل التنمية الاقتصادية، وحاجات الأسرة المسلمة، وطبيعة الفتاة ودورها الاجتماعي أن تُدعم بحوث تطوير الآلة المنزلية المنتجة، ودعمها بشيء من التقنية الحديثة البسيطة، مع تسهيل سبل نقل المواد الخام، وأعمال التسويق، وطرق التدريب الذاتية المُيسرة؛ لتصب كلها في خدمة المشروعات الصغيرة التي يقوم عليها اليوم الاقتصادي العالمي، وتدخل في جوهر التنمية الصناعية الشاملة؛ ولتكون النواة الضرورية اللازمة لمشروعات استثمارية كبيرة.

وقد أثبت الواقع الاقتصادي القائم جدوى المشروعات الصناعية الصغيرة، التي تقل فيها التكاليف المالية، وتستوعب العدد الأكبر من الأيدي العاملة، حيث يتوجه العالم الصناعي نحوها بقوة؛ فإن (50%) من الإنتاج الصناعي الياباني تقوم به شركات صغيرة، تستوعب (75%) من العمالة اليابانية، حيث يشترك كثير من النساء اليابانيات من منازلهن في أعمال هذه الشركات وصناعاتها المتنوعة، وتدعم خطة تايوان الاقتصادية المشاريع الصناعية الصغيرة بقوة، في الوقت الذي تسعى فيه للتخفيف من التكتلات الصناعية الكبيرة، وتحاول بعض دول الخليج السير في هذا الاتجاه، حيث تمثل المنشآت الصناعية الصغيرة (84%) من مجمل المنشآت العاملة في القطاع الكويتي حتى عام 1995م، وهذه - كما تظهر- وجهة عالمية، أثبتت جدواها الاقتصادية، ومن جهة أخرى تستغل هذه المشروعات الصناعية الصغيرة كل طاقات الأسرة، وتسد حاجاتها الاقتصادية، وتشغل فراغ فتياتها، وتهيء لهن الظروف الاجتماعية الملائمة للقيام بأدوارهن التربوية بصورة جادة دون حرج خلقي، أو حرمان أبوي.