الصفحة الرئيسة @ المقالات التربوية @ التربية الاقتصادية @ 11ـ الأسباب الرئيسة لأزمات الشباب المعاصر


معلومات
تاريخ الإضافة: 24/8/1427
عدد القراء: 2350
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خير نبي أرسله ربُّه بالهدى والنور، فبلغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد … فإن المجتمعات الإنسانية المعاصرة في ظل المتغيرات الاجتماعية القائمة، والظروف الاقتصادية الجائرة، والتكتلات السياسية المتناحرة: تعاني أزمات عامة ومتنوعة، شملت جميع المجتمعات، وكل الطبقات؛ بحيث توزع أفراد المجتمع الواحد المعاناة العامة، كل حسب موضعه، ومكانه في المجتمع؛ فلئن كان الفقر في بعض المجتمعات يعذب أهله بألم الجوع، ولذع البرد، وشدة المؤونة، فإن الغنى في مجتمعات أخرى يشغل أصحابه بالأمراض العضوية، والأزمات النفسية، فلم يعد دخل الفرد وحده معياراً كافياً لقياس حجم السعادة الإنسانية في مجتمع اليوم؛ فإن تحقيق درجة كافية من السعادة الإنسانية يتطلب اجتماع متغيرات كثيرة: روحية، وأخلاقية، واقتصادية … تحفُّ بالفرد، وتتفاعل فيما بينها، في ظل عدالة ربانية شاملة، تستوعب كل طبقات المجتمع، وجميع مرافق الحياة، بحيث يستمتع كل فرد في المجتمع - أياً كان موضعه - بنصيبه العادل من الحقوق، مقابل عطائه من الواجبات، وعضويته في المجتمع، فلا إجحاف ولا ظلم، ولا استغلال
ولا اضطهاد، كما قال الله تعالى: {إِنَّ
اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90].

وعلى الرغممن وضوح الوجهة الإسلامية في إعزاز الفرد، وحفظ كرامته، ورفع مكانته : فإن الواقع الاجتماعي القائم يناهض هذه الوجهة، ويسير في غير اتجاهها، وذلك حين يحطُّ على الفرد العادي من أثقال التكاليف الاجتماعية، والأعباء الاقتصادية ما ينوء بحملها ويعجز عن القيام بها  في ظل الاختيار، أما حين يضطر للقيام بها، والانصياع لمتطلباتها فإنه قد يقوم بها، وربما يتم له ذلك بنجاح وتفوق، إلا أن ذلك غالباً ما يكون على حساب صحته الجسمية، واتزانه النفسي، وتوافقه الاجتماعي.

إن هذه المعاناة الاجتماعية تعمُّ -في الغالب - جميع فئات المجتمع، إلا أنها حين تنحط بثقلها على فئة الشباب غالباً ما يكون أثرها أبلغ في كيانهم، وعنفها أشد على نفوسهم، ففئة الشباب حين غابت - في ظل طبيعة النظام الاقتصادي المعاصر- عن معترك الحياة الميدانية والعمل والإنتاج، وحُرمت ­­- في ظل المتغيرات الاجتماعية القائمة - من حق الاستقلال الشخصي، والتكوين الأسري : عانت هذه الفئة معاناة شديدة، وكابدت آلاماً نفسية واجتماعية قاسية، في صور متنوعة من الإحباط، واليأس، والضجر. مما قد يسوق بعض الشباب للتعبير عن هذه المعاناة في سلوكيات شاذة من العنف الاجتماعي، والتمرد الأسري، والانفلات الأخلاقي، وربما الغلو والتطرف، يتوجهون بها نحو المجتمع من حولهم، ويعبرون من خلالها عن إنكارهم وانتقادهم، حين هجرهم المجتمع، وأغفل مكانهم، فلا هم أطفال غافلون لاهون، ولا هم رجال عاملون منتجون.

إن هذه الصورة المؤلمة التي يعيشها جمهرة الشباب المعاصر، والتي لا يعرفون كيف يعبرون عنها بطريقة صحيحة، والتي لا يعرف طبيعتها كثير من الناس، بل ربما لا يعرفها كثير من المفكرين والباحثين، أو لربما لا يقتنعون بها أصلاً، إن هذه الظروف المؤلمة التي يعيشها الشباب لا يمكن- في الغالب- أن تمر بسلام، دون أن يعاني المجتمع من آلامها، ويكابد من أحزانها في أبنائه وبناته، فالمجتمعات البسيطة التي لم تداهمها الثورات الصناعية، وكذلك كثير من المجتمعات الريفية المعاصرة:  لا يعاني فيها الشباب هذه الآلام التي يجدها غالب شباب المدن؛ فالشاب في المجتمعات البسيطة يخرج مباشرة من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الشباب، فلا يعرف معاناة المراهقة وأزماتها، فهو منذ الطفولة شخص مهم ومنتج، لا يعرف البطالة الاقتصادية أو الانعزال الاجتماعي، وما أن يبلغ الحلم حتى يدخل مباشرة في عالم الكبار، من خلال الزواج المبكر، وتكوين الأسرة المستقلة، فلا يعرف حينئذ شيئاً عمَّا يحكيه المجتمع المتحضر عن أزمة المراهقة ومعاناتها، مما يدل على أن أزمات المراهقة التي سجلها الباحثون : أزمات حضارية، أفرزتها طبيعة الحضارة الحديثة، وليست أزمات نمو طبيعية، يمر بها كلُّ بالغ.

ولو قُدِّر أن بعض الشباب في المجتمع البسيط حُرم من الإنتاج والاستقلال وتكوين الأسرة - تحت أي ظرف من الظروف - فإن عددهم لا شك سوف يكون قليلاً، ودرجة الانحراف التي يمكن أن تقع من بعضهم سوف تكون أيضاً محدودة، وذلك لطبيعة الحياة الهادئة في المجتمع البسيط، الذي لم تكتنفه حياة الصخب، والفوضى الأخلاقية، والانفلات الاجتماعي الذي أنهك المدن الحضارية، فلا يشعر  المجتمع البسيط حينئذٍ بأزمة الشباب، ولا يقلق من احتمال خطر انحرافاتهم، فلو قُدِّر أن انحرف جميعُهم - وهذا بعيد- فإن قلَّة عددهم لا تشكِّل خطراً على المجتمع.  ولكن تبقى القضية في غاية الخطورة في حق شباب المدن والمناطق الحضارية حين يغلب على الشباب - فضلاً عن الأطفال- حياة البطالة الاقتصادية، والعزلة الاجتماعية عن عالم الكبار، بحيث يعجز جلُّهم عن الاستقلال الاقتصادية, وتكوين الأسرة قبل الخامسة والعشرين, فيعيش غالب الشباب حالة من البطالة الاقتصادية والجنسية قد تتجاوز العشر سنوات، في ظروف اجتماعية متغيرة، انفتح فيها المجتمع المسلم  على غيره من المجتمعات، وتهيأت أسباب الانحراف بكل أنواعها، وأصبح الإعلام بكل وسائله متاحاً بين أيدي الشباب، مع ضعف واضح في جميع المؤسسات التربوية، مما يهيئ بيئة مختلة تظهر فيها السلوكيات الشبابية الشاذة، والانحرافات الأخلاقية القبيحة، فلو قُدِّر أن انحرف نصف الشباب، أو ربعهم - وهذا ليس ببعيد- فإن هذا العدد من الشباب المنحرف كافٍ لإزعاج المجتمع، وإشغاله وإقلاقه.

وفي بلد مثل المملكة العربية السعودية، التي تعد من أكثر الدول العربية والإسلامية محافظة وأمناً : تتزايد فيها الحاجة إلى دور الملاحظة، ورعاية الجانحين، فمنذ عام 1954م والدولة سائرة ومتوسعة في فتح دور لإصلاح الشباب ورعايتهم في المدن المختلفة، بعد أن تفاقمت مشكلاتهم، وتنوعت انحرافاتهم وجرائمهم،وتصبح القضية خطيرة إذا علم أن مجتمعات الخليج في العموم مجتمعات شابة، تغلب فيها فئة الشباب على التركيبة السكانية، حيث يشكل الشباب العدد الأكبر من أفراد المجتمع، بمعنى أن انحراف بعضهم - لاسيما في الظروف الحياة المعاصرة- سوف يشكل خطراً كبيراً على المجتمع، وربما تكون القضية أخطر من هذا وأبلغ حين تشير إحصائيات عام 1413ه في المملكة العربية السعودية إلى أن نسبة المتزوجين لا تتجاوز 58%،  ومن المعلوم أن العلاقة في غاية القوة بين العزوبة والجريمة بأنواعها؛  إذ إن جرائم العزاب - لاسيما في القضايا الأخلاقية - تفوق جرائم المتزوجين، فقد وُجد أن نسبة العزاب من السجناء تصل إلى أكثر من 76%، ومهما يكن الوضع فإن الشاب - في ظل الظروف الاقتصادية والاجتماعية القائمة - لا يستطيع الزواج  إلا بعد الخامسة والعشرين من عمره، والفتاة لا يمكنها ذلك إلا بعد العشرين، وهذا التأخير في سن الزواج في ظل مفهوم العولمة والانفتاح، والانفلات الأخلاقي: يشكل - بالضرورة - خطراً محدقاً بالمجتمع، ومؤسساته التربوية، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما للشيطان من سلاح أبلغ في الصالحين من النساء، إلا المتزوجون، أولئك المطهَّرون، المبرؤن من الخنا"، ويقول أيضاً عليه الصلاة والسلام: "إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين، فليتق الله في النصف الباقي".

إن الشارع الحكيم حين ربط التكليف الشرعي بحصول البلوغ دلَّ على أن الشاب البالغ قادر على القيام بالتكاليف الشرعية، وهو مسؤول مسؤولية كاملة عن تصرفاته الاختيارية مادام عاقلاً، فقد قال r : "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشب، وعن المعتوه حتى يعقل"، وقد خص الشارع الحكيم مرحلة الشباب بمزيد اهتمام وعناية فهي أخصب مراحل الحياة الإنسانية التي تشمل جميع جوانب النشاط الإنساني، فقد  قال r: " لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس : عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وماذا عمل فيما علم". مما يدل- في العموم- على أن مرحلة الشباب مرحلة مهمة في التصوير التربوي الإسلامي، وهي مرحلة تكاليف وعطاء، وليست مرحلة انحراف وبطالة، فكيف يسوغ للمجتمع أن يعزل الشباب عن الحياة الاجتماعية والإنتاج - وقد جرى عليهم القلم - بحجة ضعف الخبرة التعليمية، وكيف يسوغ له أن يمنعهم من التأهُّل لتكوين الأسرة- وقد أصبحوا قادرين على التناسل - بحجة عدم النضج العقلي ؟.

إن الطعن في السن ليس هو دائماً وسيلة الشباب الوحيدة للخبرة والنضج، فكم من كبير في الثلاثين أو الأربعين وهو مع ذلك
لا يحسن شيئاً، وكم من شاب غض قد فاق الكبار؛ إنما الخبرة تحصل بالممارسة والمعاطاة، والنضج ينمو بالتجارب والمعاناة.

وبناء على ما تقدم فإن الواقع الاجتماعي يلزم المختصين بإمعان النظر في واقع الشباب المسلم المعاصر، ومعاناته وحاجاته، ويطالبهم بتلمُّس الوسائل التربوية والاقتصادية الصالحة لإعدادهم إعداداً يتوافق مع نظرة الإسلام إليهم باعتبارهم مكلفين شرعاً، ومهيئين فيزيولوجياً للتناسل، ومائلين إلى حبِّ الاستقلال، وقادرين على الكسب والإنتاج، وما لم يسعَ المجتمع من خلال المتخصصين والمسؤولين لحل هذه المشكلة المؤرقة فإن مزيداً من الانحرافات السلوكية والأزمات الاجتماعية سوف يخوضها الشباب، ولن يعيش الشباب وحده هذه المعاناة، وإنما سوف يعانيها المجتمع معه، ويكابد آلامها، يقول الشيخ محمد قطب : "إن مرحلة الشباب الباكر أشد حاجة إلى الرعاية لأنها مرحلة تكوُّن الثمرة المؤدية أي النضج، وما لم تتعهد الثمرة فإن جهد الغرس كله يمكن أن يضيع".

وتتلخص صورة المعاناة في أزمة التوافق عند الشباب المسلم المعاصر بين البلوغ الجنسي وحصول التكليف الشرعي من جهة وبين الاستقلال الاقتصادي والقدرة على الإنتاج من جهة أخرى، مما ترتب على عدم التوافق بينهما حصول أزمات أخلاقية وسلوكية، تهدد المجتمع وأمنه واستقراره، فكان من الضروري إعادة النظر في واقع الحياة الاقتصادية والأنظمة التعليمية؛ بهدف وضع وسائل عملية يمكن من خلالها إعادة التوافق بين البلوغ الجنسي والبلوغ الاقتصادي عند الشباب، بما يحقق مصلحة المجتمع، وسلامته في أهم وأخطر فئاته.