الصفحة الرئيسة @ المقالات التربوية @ التربية الاقتصادية @ 9ـ الدعوة إلى ابتكار مشروع جديد للتنمية


معلومات
تاريخ الإضافة: 24/8/1427
عدد القراء: 1924
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

تعيش جميع المجتمعات الإنسانية المعاصرة حالات متفاوتة الحدَّة من التدهور الاقتصادي العام في ظل الهيمنة الغربية بنظاميها الرأسمالي القائم، والاشتراكي البائد، وذلك من حيث الاستنزاف  المُفرط للثروات الطبيعية، واستغلال الشعوب، وسوء توزيع الثروة في صور متنوعة من مظاهر السحق البشري، والاستعباد الشعبي، والسيطرة الاقتصادية العامة، التي أهَّلت العالم الغربي لفرض نموذجه التنموي كبديل جبري، واختيار وحيد للتقدم والتطور الاقتصادي، فقد استقر لدى خبراء الاقتصاد الغربيين ضمن العديد من تقاريرهم المقدَّمة لمنظمة الأمم المتحدة والبنك الدولي: أن السبيل الوحيد لنهضة الدول النامية اقتصادياً سيرها بدقة على نمط الطريقة الاقتصادية الغربية. فعانت الأمة الإسلامية - بجانب تخلفها التقني - التحدي الخارجي الذي نجت منه أوروبا في نهضتها الحديثة، حين انطلقت حضارتها بسلام من داخل المجتمع الزراعي التقليدي دون  عوائق خارجية تحدُّ من سرعة تقدمها الاقتصادي.في الوقت الذي لم يجد فيه أبناء المنطقة الإسلامية سبيلاً للتنمية الحديثة إلا عبر النموذج الغربي: الرأسمالي أو الاشتراكي، فتقاسم المعسكران الشرقي والغربي أنصارهما من الدول الإسلامية.فما لبثت الأمة كثيراً حتى أدركت قصور النموذج الغربي بشقيه عن خدمة الإنسان، وأنها إنما تنتقل من تخلف إلى تخلف، ومن ظلم إلى ظلم.حيث استوعبت الدرس بأن التنمية لا تأتي من خارج الأمة، بل هي عملية اجتماعية واعية تنطلق من إرادة وطنية مستقلة،وأن النظم الاقتصادية - مهما كانت متفوقة - لا تصلح لكل مجتمع.فضعفت - بناء على ذلك - حدَّة انبهار الأمة المسلمة بالنموذج الغربي،ولاسيما بعد أن انهار أحد شقيه اقتصادياً،وظهرت بوادر جادة تُنذر بانهيار شقه الآخر، وأفول حضارة الغرب بالكلية،في الوقت الذي برزت في الساحة العالمية نماذج اقتصادية متفوقة،أثبتت وجودها في عالم الواقع من خلال إنتاجها الاقتصادي المتفوق الذي قام على غير نمط الغرب التنموي، وهذا واضح في بعض نماذج شرق آسيا التنموية،ثم إن النموذج الغربي نشأ منحرفاً من أساسه حين قام على فلسفة عسكرية اقتصادية، تتخذ من العلوم والمعارف الكونية مادة رئيسة في معاهدها ومدارسها الحربية، بهدف حماية مصالحها الاقتصادية؛ ولهذا قام النزاع المسلح في أوروبا في القرون الأخيرة نتيجة حتمية للمطالب والمصالح الاقتصادية.ولعل هذا ما يبرر تسارع الغرب المفرط في إنفاقه على السلاح.

إن فهم هذا الوضع يجعل من الضروري إعادة النظر في استراتيجيَّات الأمة المسلمة وخططها التنموية بما يكفل ابتكار نمط جديد للتنمية الاقتصادية يتنكَّب نمط النموذج الغربي، وكل نموذج  جاهلي متعارض مع الوحي الرباني، في الوقت الذي يخدم فيه الإنسان بالدرجة الأولى، فيجمع له بين خيري الدنيا والآخرة؛ فإن الطبيعة المُسخَّرة -  بإذن الله تعالى - لن تبخل على الأمة المسلمة بما أكرمت به الأمم الجاهلية، بل إن كل ما بثه الله تعالى في الكون من خيرات وكنوز هي للمؤمنين قبل أن تكون لغيرهم،كما قال الله تعالى في كتابه العزيز: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف:32]. كما أن محاولة مسابقة الغرب في نمط تفوقه أمر بعيد، فإن سرعة التنامي التقني لا حدَّ لها، والهوة بين مالكها وفاقدها في غاية الضخامة، فلن يكون التنافس معهم في ميدان تفوقهم ذا جدوى اقتصادية؛ لأن فيه عودة من جديد للاستعباد الفكري لعالم الغرب، فيستبيح الأمة مرة أخرى بخدعة الخبرة والخبراء،فيأخذ " وينهب ولا يقدم إلا فتاتاً فاسداً من بقايا موائده الصناعية"،فإن من مصلحته عرقلة التقدم في الدول النامية حتى تبقى محتاجة إليه، مفتقرة إلى علمه وخبرته،فلابد من تجاوز النموذج الغربي إلى ابتكار نموذج إسلامي جديد.

إن أيَّ مشروع حضاري إسلامي صادق في توجهه نحو الإبداع والتفوق والاستقلال لابد أن يتحرر أولاً من النموذج الغربي، الذي ينبغي نقده، وإظهار عواره، وإن نقد النموذج الغربي لا يأتي فقط ممن يعيشون خارجه، ويصطلون بآثاره البشعة؛ بل إنه مُنتقد من داخله، فمازالت فئات ضمن بنية المنظومة الغربية تنتقد انحرافات هذه  الحضارة وتجاوزاتها في حق الإنسان والبيئة.ففي ميدان استهلاك الطاقة-  على سبيل المثال-  يستغل سكان البلدان الصناعية (80%) من طاقة العالم مع أنهم لا يمثلون أكثر من (27%) من سكان الأرض، حيث يستهلك الأمريكيون الذين يشكلون (6%) من سكان العالم (36%) من الطاقة المنتجة في العالم، في حين يتوزع سكان الأقطار المتخلفة الذين يشكلون (73%) من سكان العالم (20%) فقط من حجم الطاقة المنتجة.وفي جانب توزيع الثروة فقد "جاء في تقرير الأمم المتحدة الإنمائي لعام 1999م …  أن ثروة أغنى ثلاثة رجال في العالم تتجاوز مجموع الناتج القومي لخمس وثلاثين دولة نامية بسكانها البالغ عددهم (600) مليون نسمة".إن هذا الواقع الظالم لمخرجات النموذج الاقتصادي الغربي لا تُؤهله لأن يكون نموذجاً يُحتذى للأمة المسلمة القائمة بالعدل، المخصوصة بالشهادة على الناس.

ولا يفهم مما تقدم الإعراض عن اقتناص الحكمة المفيدة من أي مصدر كان، وإنما المقصود هو تلمُّس المخرج من الأزمة الاقتصادية المعاصرة بابتكار اقتصادي حضاري جديد لا يعتمد - بالضرورة - السير خطوة خطوة على النهج التنموي الغربي، فالسبل نحو التنمية المتفوقة ليست واحدة، كما أنها ليست حكراً على الغربيين وحدهم، والعلوم التي بثها الله تعالى في الكون ليست متناهية، وما وصل إليه الإنسان من المعارف المتنوعة لا يعدو أن يكون شيئاً يسيراً مما هو موجود ومتاح للباحثين، من خلال التسخير الرباني للكون، فلا يبعد أبداً في مسير الأمة الجاد نحو الاستقلال بتنميتها الاقتصادية: أن تقف على معالم جديدة للنهضة، فتكتشف - في كون الله الفسيح - من أسباب التفوق العلمي والتقني ما يدفع بعجلة نهضتها التنموية بصورة أسرع، عبر سبل حضارية جديدة، لم يعرفها غيرها، ولم يقف عليها سواها، ولئن كانت معالم هذه النهضة الحضارية المنشودة ليست واضحة في شكلها وطبيعتها وآلياتها في ذهن الباحث، إلا أنها ممكنة، وغير مستبعدة، حين يتعامل المسلم مع من يملك خزائن كل شيء - سبحانه وتعالى - فلا يُستبعد حينئذٍ إمكانية مثل هذه التوقعات المستقبلية المتفائلة.