الصفحة الرئيسة @ المقالات التربوية @ التربية الاقتصادية @ 5ـ التخلف الاقتصادي ووسائل النهضة


معلومات
تاريخ الإضافة: 24/8/1427
عدد القراء: 2025
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد… فإن الأمة الإسلامية المعاصرة تعيش حالة من غياب الهوية الإسلامية في جوانب متعددة من شخصيتها، غابت فيها معالم بنائها المتميزة، وفقدت فيها كثيراً من أساسياتها المعتبرة، ولاسيما في هذا العصر من تاريخ الأمة الإسلامية، الذي يشهد تراجعاً كبيراً في إنجازات الأمة الحضارية على جميع المستويات، وفي غالب ميادين الأنشطة الإنسانية، حتى إن المراقب لتراجع الأمة، وتخلفها المتواصل، وإخفاقاتها المستمرة: ليهوله حجم الهوة بين هذا الواقع المعاصر المؤلم، وبين نجاحات الأمة وإنجازاتها الحضارية في تاريخها المجيد.

إن من المتفق عليه عند كل منصف أن تقدم الأمة الإسلامية وازدهارها -كان ولا يزال- مرتبطاً - كل الارتباط- بدرجة تمسكها بتعاليم دينها، وتقيدها بشريعة ربها، وأن إخفاقاتها مرتبطة -هي الأخرى كل الارتباط- بدرجة بعدها عن دينها ورحمة شريعتها.وقد كان هذان الارتباطان في غاية الوضوح في حسِّ الأمة في السابق حين كانت تعيش شريعتها، وتعمل بمقتضى عقيدتها، حينما كانت لا ترى الفصل بين الدين والدنيا، ولكن لما طال عليها الأمد عبر أحقاب الزمان، وتداعت على مقدَّراتها الأمم، وما رافق ذلك- في هذا العصر- من الهجمة الفكرية الإلحادية، والغزو الفكري والأخلاقي الماجن، اللذين تزامنا مع التقدم المذهل لوسائل الاتصال المتنوعة: لم يعد غريباً على الأمة - في خضم هذه المتغيرات الضخمة- أن تقلِّد غيرها، وأن تسْتنَّ بأعدائها، بل وترضى أن تعيش خارج شريعتها، وتحيا بغير عقيدتها.

ولقد تأثر الميدان الاقتصادي بما تأثرت به الميادين الأخرى من الانحراف عن نهج الحق، وما صاحب ذلك من تخلُّف عام على جميع المستويات التنموية، ولاسيما في عصر العولمة الثقافية، والتسلط الاقتصادي على الموارد والإنتاج والتوزيع والأسواق، حتى إن الأمة المسلمة - في هذه الظروف الاقتصادية المعاصرة- تعيش حالة من الضياع، فلا تهتدي إلى المخرج الصحيح من أزماتها الاقتصادية الخانقة، وإنما تنتقل عبر دروب التيه الاقتصادية من إخفاق إلى إخفاق، في سلسلة متلاحقة - لا نهاية لها- من المتاهات الموحشة، ووصفات علاجات التنمية الخادعة.

إن واقع التخلُّف الاقتصادي قد بلغ في الأمة منتهاه، فترك آثاره المُحبطة على كل جوانب التنمية، فأثر بصورة مزعجة على طموح الأمة وآمالها المستقبلية، حتى إن الأمة - من فرط يأسها في أمل النجاح - أصبحت تشكُّ في كل خطة مستقبلية، وتتوجَّسُ من كل بادرة تنموية، حتى إن التشاؤم - يكاد يكون - سمة عامة تخيِّم بظلالها المذمومة على مستقبل الأمة الاقتصادي، ومشاريعها التنموية.

ولم يكن الفرد من أمة الإسلام المعاصرة ليعيش شعوراً مغايراً لمشاعر الأمة المُحبَطة؛ فقد بلغت به آثار التخلف أسفل درجات العطاء التنموي، ونزلت بقدراته الإنتاجية إلى أحطِّ مراتب الإنتاج التنموية، حتى إنه لم يعد غريباً في الأوساط الاقتصادية المعاصرة أن يرتبط التخلف بدين الإسلام، وانخفاض إنتاجية الفرد بالعامل المسلم.

إن هذا الوضع الاقتصادي المؤلم يدعو الأمة المعاصرة - أولا وقبل كل شيء - إلى إعادة النظر في أصولها الاقتصادية، ومراجعة منطلقاتها التنموية الأساسية، وذلك قبل النظر والمراجعة لفروع الأنشطة الاقتصادية والتنموية؛ فإن حجم الواقع المتردي يشهد بأن الأزمة الاقتصادية المعاصرة أزمة أصول ومنطلقات، وليست أزمة فروع وجزئيات؛ فإن الخطأ في الفروع والجزئيات في العملية التنموية يمكن ملاحظته واستدراكه، والخطأ فيها بل وحتى التقصير لا يمكن أن يحطَّ الأمة إلى مثل هذه الدَّرَكة المهلكة التي تحياها اليوم، فلابد- والحالة هذه - من مراجعة الأصول والأساسيات الضرورية التي تقوم عليها التنمية الاقتصادية، وتنطلق منها.

ومن هنا فإن خروج الأمة من أزمتها المعاصرة لا بد أن ينطلق من ثلاثة منطلقات أساسية، هي محاور القضية الاقتصادية ولُبُّها، أولها: ربط النشاط الاقتصادي بالغاية الأساسية للعملية التنموية، في بعدها الرأسي تجاه الخالق جل جلاله، وفي بعدها الأفقي تجاه الإنسان عنصر التنمية الأول وهدفها ووسيلتها.  والثاني: تحديد موقف الأمة من النموذج التنموي الغربي المعاصر، والتوجه إليه بالنقد، والدراسة، والمقارنة، بينه وبين غيره من نماذج التنمية الأخرى المعاصرة؛ لإثبات أنه ليس النموذج الوحيد لمن أراد التفوق؛ فقد تكون هناك نماذج أخرى أكثر تفوقاً وملاءمة للأمة منه، وأما المنطلق الثالث: فهو لفت الأمة المسلمة المعاصرة نحو ذاتها ومكمن قوتها الاقتصادية، وتيئيسها من إخلاص غيرها لها، لتعتمد على ذاتها في بناء نهضتها الاقتصادية الحديثة، في ضوء تعاليم دينها، وحدود شريعتها؛ فإن عطاء هذه الشريعة الخاتمة لا يمكن أن ينقطع مادامت الأمة تعيش بها، وتتفاعل معها، وتتلمس فيها حلول مشكلاتها المستجدة، منطلقة - في كل ذلك- من وجوب توحيد مصدر التلقي للتشريع -تماماً- كوجوب توحيد جهة التوجه بالعبادة نحو الخالق سبحانه وتعالى؛ فإن توحيد العبادة يستلزم - بالضرورة- توحيد مصدر التلقي للشريعة.