الصفحة الرئيسة @ المقالات التربوية @ التربية العقلية @ 26ـ الأمة الإسلامية والتميُّر الفكري


معلومات
تاريخ الإضافة: 24/8/1427
عدد القراء: 1825
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك ضال، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد.. فإن الله تبارك وتعالى اختصَّ الأمة الإسلامية بخصائص تميزها عن غيرها من الأمم، فهي أمة القيادة والسيادة، التي اختارها للأستاذية على باقي شعوب الدنيا، والقيام عليهم بمسؤولية الشهادة، كما قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143]، فهي شهادة في الدنيا على الأمم بالدعوة وإقامة الحجة، وشهادة في الآخرة بين يدي الله تعالى للرسل بأنهم بلَّغوا أقوامهم، ونصحوا وبيَّنوا.

وإن من مستلزمات هذه الشهادة تميُّز الأمة المسلمة الشاهدة عن غيرها في كل ميادين الحياة الإنسانية، والانصباغ الكامل بصبغة الله تعالى التي اختارها للفئة المؤمنة، كما قال سبحانه وتعالى: {صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} [البقرة:138]، والتحرر من كل سلوك أو نهج تميَّز به غيرها، حتى على مستوى الألفاظ والعبارات، فقد أدَّب الله المؤمنين ونهاهم أن يستخدموا لفظة اليهود "راعنا"، لاحتمال إمالتها إلى معنى الرعونة المستقبح، وأمرهم أن يقولوا بدلاً عنها: "انظرنا"، وهي كلمة تتعذر إمالتها إلى معنى لا يليق بمقام النبوة، كما قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:104]، ولقد استفاضت السنة المطهرة بالتوجيهات الصريحة والكثيرة بضرورة مخالفة المشركين عامة، وأهل الكتاب خاصة، في كل ما هو خاص بهم من مظاهر السلوك والأخلاق، فضلاً عن العقائد والتصورات، ومع ذلك فقد صحَّ عن رسول الله r أن الأمة الإسلامية في آخر الزمان سوف تسلك طريقة أهل الكتاب، في كبير الأمر وصغيره، هذا وإن كان واقعاً لا بد من حصوله فإن الفرض الشرعي يحتِّم مزيد حذر وتنبه من مشاركة المخطئين المقلدين لأهل الكتاب، وليس هو الاستسلام للواقع المنحرف.

وتأتي فتنة الأمة الإسلامية المعاصرة في تخلفها الحضاري الذي شمل جميع ميادين الحياة الحيوية، حتى إن أمة بدت في عصرها الحاضر وكأنها لا تُحسن شيئاً في صناعة الحياة، مكتفية في حركتها الحياتية بالتقليد والمحاكاة، دون أن يكون لها دورها الريادي المتميِّز في توجيه عجلة الحضارة المعاصرة، ففي الوقت الذي نجد فيه الحذر عند غالب الأمم في تلقيها الفكري عن بعضها البعض، نجد أنفسنا أقلَّ حيطة وحذراً منهم في تلقينا الفكري عن غيرنا، رغم أنه لا يوجد منهج فرض التميز على أهله، والاستقلال الفكري عن غيرهم كمنهج الإسلام.

إن الإسلام مع ما يفرضه على الأمة من التميز والاستقلال، فإنه يسمح لها - ولاسيما في حال الاضطرار - أن تأخذ عن غيرها، وأن تستخدم منهجها الراشد في ضبط أسلوب الاقتباس، ضمن حدود الحكمة التي ينشدها المسلم، فهي ضالته حين يجدها فهو أولى بها، فإن كلَّ ما في الكون، مما يُعد نافعاً، من الماديات أو المعنويات، سواء مما هو موجود على فطرته، أو أنتجه الإنسان أياً كان، كل ذلك هو من نعم الله تعالى التي سخرها للمؤمنين، ليستعينوا بها على عبادة ربهم عز وجل، كما قال سبحانه وتعالى: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32]، فهذه النعم بأنواعها، بما فيها العلوم والمعارف إنما هي للذين آمنوا في الدنيا، يشترك معهم غيرهم في التمتع بها، أما في الآخرة فهي خالصة للمؤمنين، لا نصيب لغيرهم فيها.