الصفحة الرئيسة @ المقالات التربوية @ التربية العقلية @ 16ـ العلاقة بين اللغة والعقل


معلومات
تاريخ الإضافة: 24/8/1427
عدد القراء: 2906
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

إن العقيدة الإسلامية تفرض على الأمة التميُّز اللغوي، وكذلك العمليات العقلية، وفعاليات التفكير تُحتم - هي الأخرى - على المنهج التربوي التوحيد اللغوي، فكما أن اللغة تؤثر على الخلق والدين، فكذلك تؤثر على العقل والذكاء، وعمليات التفكير والتعلم، حتى إنها تدخل في بناء الفكرة نفسها دخولاً عضوياً، فأي حضور لعنصر لغوي جديد مع اللغة الأم: فإنه - حتماً - يؤثر عليها سلباً بقدر هذا الحضور اللغوي وكثافته.

إن العلاقة التي تربط اللغة - منطوقة كانت أو مكتوبة - بالتفكير علاقة وثيقة إلى أبعد حد يمكن تصوره، فهما من شدة ترابطهما مترادفان، ولا يبعد عن الصواب من جعلهما شيئاً واحداً، وأقل ما يمكن أن يُقال فيها أنها أداة التفكير؛ فإن " أنماط التفكير السائدة التي يكتسبها أفراد مجتمع من المجتمعات ترتبط ارتباطاً كبيراً باللغة التي يتكلمونها، فلا يمكن أن توجد أفكار دون … لغة ورموز لغوية، بل إن نوع هذه الأفكار وطريقة التعبير عنها ترتبط أيضاً باللغة التي يتكلمها الأفراد "، ومن هذا المنطلق الخطير لتأثير اللغة على أنماط التفكير جاءت توصيات العديد من المؤتمرات العربية: تؤكد على ضرورة استخدام اللغة العربية في جميع المؤسسات التعليمية ومناهجها دون استثناء، حفاظاً على مناهج التفكير الإسلامية من الاستلاب الثقافي الذي تفرضه اللغة الدخيلة.

وأما ما يفرضه واقع الأمة الإسلامية المعاصر، وحاجتها الملحة إلى العلوم التقنية، والمعارف الطبيعية التي تتوافر عادة بغير لغتها: فقد جاءت التوصيات أيضاً بضرورة السعي في تعريبها؛ لأن الأمة المهتدية لا تبدل نمط ثقافة شعبها، وأسلوب تفكيره ليتأقلم مع لغة الثقافة الدخيلة المحتاجة إليها، بل تسعى لترويضها وإخضاعها لأنماط ثقافتها ومناهج تفكيرها؛ فإن هذه العلوم في مبدأ أصلها الفطري محايدة، لا علاقة لها بلغة أهلها وثقافتهم، فقد أثبت جمع من الدراسات أنه لا توجد " علاقة بين تفوق الطالب في اللغة الإنجليزية وتحصيله في العلوم الطبيعية الأساسية والتطبيقية "، فليس بغريب أن يوجد في اليابان العالم الكبير البارع الذي لا يُتقن اللغة الإنجليزية؛ لأن اليابان منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي قررت تحويل جميع المعارف التي تحتاجها إلى لغتها القومية، في الوقت نفسه - تقريباً - الذي قررت فيه بعض المؤسسات التعليمية في البلاد العربية الانتقال إلى التعليم باللغة الإنجليزية، فأصبح غالب هذه المؤسسات التعليمية العربية تدرس العلوم باللغة الأجنبية، في الوقت الذي شهد فيه القريب والبعيد بقدرات اللغة العربية المتفوقة على مجاراة العلوم الحديثة المختلفة، وقدرتها الفائقة على التعبير عن أدق الفروق اللغوية بين المعاني.

إن من السهولة بمكان جمع الشواهد الشرعية التي تُجيز تعلم اللغة الأجنبية للحاجة بصورة فردية، إلا أن من الصعوبة بمكان استنباط ما يُجيز فرض تعلمها على كلِّ فرد في الأمة حتى الإناث، فإن بعض البلاد - قبل زمن قريب - كانت تُعفي الفتيات من دراسة اللغة الأجنبية، ومن أجاز تعلمها من الباحثين - لكونها ضرورة دينية وعصرية خاصة للمثقفين - أجمعوا على خطورة تعلمها في المرحلة الابتدائية - خاصة - لتأثيرها الأكيد على اللغة الأصلية، وحصروا زمن تدريسها في السنوات الأخيرة من التعليم العام - المرحلة الثانوية - لأن اللغة الأم تستقر - في العادة - أطوار اكتسابها النهائية في هذه المرحلة، ويضعف  عندها تدريجياً القدرة على تعلم اللغات الجديدة، فلا تتضرر اللغة الأم حينئذ باللغة الدخيلة كمنافس لها، ورغم هذه الأدلة الكثيرة لتحجيم اللغة الأجنبية في التعليم العام فإن هناك من لا يزال يُصرُّ بقوة على تعليم اللغة الإنجليزية للطلاب في المرحلة الابتدائية.

ولا يفهم مما تقدم جواز تعليم اللغة الأجنبية في صورتها " الخام " كما جاءت من بيئتها الأصلية؛ فإن الواجب مراجعتها من جديد حتى تُفرَّغ من محتواها الثقافي، وتُعاد في صورتها الرمزية، ثم تصاغ من جديد في قوالب ثقافية تناسب طبيعة الثقافة في المنطقة الإسلامية، حيث يجد مؤلفو المناهج في التراث الإسلامي القديم والحديث نصوصاً كثيرة، يمكن أن تُشكِّل مادة علمية عظيمة صالحة للترجمة والتدريس، ومع كل هذا فلا بد أن يبقى في أذهان المخططين التربويين: أن تعلُّم اللغات الأجنبية لغير حاجة مكروه شرعاً.