الصفحة الرئيسة @ المقالات التربوية @ التربية العقلية @ 11ـ حدود الحرية الفكرية في منهج الإسلام التربوي
إن الوجود في التصور الإسلامي ينقسم إلى شقين، الأول: وجود عالم الشهادة الذي يمكن أن تُدركه الحواس، ويعمل فيه العقل بالملاحظة، والاستنباط، والتحليل. والثاني: وجود عالم الغيب الذي حجبه الله بحكمته، وجعل الوحي المنزل من عنده هو طريق الإنسان الوحيد لمعرفة تفصيلات ذلك العالم، وإنما جاءت محنة المسلمين الأولى من قبل المعتزلة، ممن ادَّعوا حرية الفكر، فأعطوا عقولهم ساحة أكبر للتفكير والانطلاق خارج قدرات وحدود العقل الإنساني، وجاءت محنة المسلمين الثانية من جهة الثقافة الغربية؛ حين انتشرت المعارف الحديثة ممزوجة بخصائصها، مشْربة بروحها، وما زال هذا التصور المُفْرط في العقلانية - حتى اليوم - يُؤثر في الحياة الإسلامية المعاصرة؛ بغية الوصول إلى نظريات حديثة تتناسب مع تطور العقل البشري، حتى أصبح - عند البعض - تدريس الدين نوعاً من الجمود الفكري الذي يزعج العقل، كما أن المعتقدات - أياً كانت - لا بد أن تخضع للتقويم والنقد والمعارضة، وربما للرفض أيضاً، في جوٍ أقرب للإلحاد منه للإيمان، بل ربما وصل تعظيم العقل الإنساني عند بعض المفتونين إلى درجة التأليه؛ بحيث تصبح قدرة العقل في حسِّهم لا حدَّ لها، مما يصح تسميته بالوثنية العقلية.
إن التصور الإسلامي يحترم العقل البشري ما دام يعمل في حدوده المشروعة، ويراعي حاجته الغريزية للاطلاع والمعرفة، إلا أنه يمقُتُهُ إذا نهج مسلك الخرص والظن، بعيداً عن الأسلوب العلمي الصحيح، كما قال U: { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِن يَّتَبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } [الأنعام:116]، فقد استأثر الخالق U بعلوم عظيمة حجبها عن الإنسان، كما قال في القرآن الكريم: { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَ هُوَ … } [الأنعام:59]، فحدود حكم العقل: عالم الشهادة، وأما عالم الغيب فلا حكم للعقل عليه، وزيادة معارف الإنسان المعاصر المتراكمة والمتسعة لا تزيده - في الحقيقة - إلا قناعة بعظم جهله، فما يعلمه عقل الإنسان أقل بكثير مما يجهله؛ لأنه ما زال – حسب تركيب عقله – محكوماً بمقياس الزمان والمكان، في حين لا تخضع الحقائق الغيبية الكبرى لهذين الظرفين المحدودين، فلم يعد أحد يستطيع أن يدَّعي إمكانية استيعاب كل المعارف المتاحة؛ فإن عملية التراكم المعرفي قد وصلت إلى درجة من الاتساع أصبح من المستحيل معها للعقل البشري أن يستوعبها ، وظهر بوضوح زيف فكرة: " تزايد المعلوم يرافقها تناقص المجهول "، فبقدر ما تتزايد دائرة المعلوم: تزيد معها - بصورة مطردة - دائرة المجهول، فإذا بالإنسان المعاصر يدرك حدود عقله، ومحدودية قدراته من خلال انتصاراته العلمية، وإنجازاته الحضارية، يقول الفيلسوف والطبيب الفرنسي شارل ريشيه (ت1935م): " يجب على الإنسان مع احترامه العظيم للعلم العصري أن يعتقد أن هذا العلم العصري مهما بلغ من الصحة فهو لا يزال ناقصاً نقصاً هائلاً، وأن حواسَّنا من القصور والنقص إلى درجة يكاد معها الوجود أن يفلت من شعورها كل الإفلات "، ويقول دور كايم رغم إلحاده، وإيمانه المفرط بقدرات الإنسان العقلية: " لا بد لكي يمكننا أن نسير في حياتنا: أن نسلم بأشياء دون أن نحاول تكوين فكرة علمية عنها في أذهاننا، أما إذا شئنا أن نفهم كلَّ شيء فهماً عقلياً فسنجد أن قوانا الخاصة لا تكفي لكي تُعلل وتُجيب عن سؤالنا لماذا ؟ ".
إن على الناشئ أن يعرف أن منهج الإسلام في التربية العقلية ينطلق في أساسه من مبدأين اثنين لا بد للمؤمن أن يتقيَّد بهما:
الأول: التسليم للوحي في تحديد " مجالات النظر العقلي، فيصون الطاقة العقلية أن تتبدد وراء الغيبيات التي لا سبيل للعقل البشري أن يحكم فيها "، قال أبو الزناد: " إن السنن، ووجود الحق لتأتي كثيراً على خلاف الرأي، فما يجد المسلمون بداً من اتباعها "، بحيث يصبح الاتباع الواعي هو نهج العقل البشري مع الوحي، كما قال الزهري: " من الله الرسالة، ومن الرسول البلاغ، وعلينا التسليم "، فلو صحَّ أن يكون العقل حاكماً على الوحي: " لكان أسفل الخفِّ أولى بالمسح من ظاهره ".
الثاني: هو الانطلاقة العقلية الواسعة في عالم الشهادة، وشؤون الحياة الدنيا، يعمل فيها العقل بالتسخير والتنظيم، والرعاية والإصلاح، بحيث لا يحدُّه في انطلاقته الفكرية إلا هاوية عالم الغيب حيث بدايات الإلحاد والزندقة والخرص، يقول الرسول e: (( لا يزال الناس يسألونكم عن العلم، حتى يقولوا هذا الله خَلَقَنا، فمن خلق الله ))، ويقول شارل ريشيه: " فالأولى بالعالم الصادق أن يكون متواضعاً وجريئاً في آن واحد، متواضعاً لأن علومنا ضئيلة، وجريئاً لأن مجال العوالم المجهولة مفتوح أمامه ".