الصفحة الرئيسة @ المقالات التربوية @ التربية العقلية @ 10ـ وحدة المعرفة العقلية في التصور الإسلامي


معلومات
تاريخ الإضافة: 24/8/1427
عدد القراء: 2152
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

لقد قامت غالب الأنظمة التربوية المعاصرة على أحد مبدأين: إما التَّنكُّر للدين بالكلية، وإما الفصل بين الدين والحياة في كيانين مستقلين، فأخفقت كل هذه النظم التربوية، الملحدة منها أو المبنية على هذا الانفصام النكد بين الدين والدنيا في بناء الإنسان، وإصلاح المجتمع، وظلَّت العلوم المتعلقة بالإنسان ككائن متفرِّد في حالة بدائية قاصرة متخلفة، في حين حقَّق العلم المادي - المجرَّد من الروحية - تقدماً هائلاً مذهلاً، بعيداً عن سلطان الكنيسة وشططها، وأصبح الاعتقاد الشائع: أن الدين - في العموم - غيبي النظرة - وبعيد عن الحقائق، ولا يصلح إلا للمجتمعات البدائية المتخلفة التي تعجز عن فهم لغز الحياة وكنهها، فقام الفهم للدين ومبادئه على أنه مقابل لكلمة العلم، ومناقض لها، فإما التقدم والازدهار في ظل العلم المادي، وإما التخلف والانحطاط في ظل الدين ومؤسساته.

وقد قامت في كثير من بلاد المسلمين - بناء على هذا الفهم القاصر، وبدعم من المستعمر الدخيل، وقناعة من بعض الولاة - أنظمة تربوية تفصل بين علوم الدين وعلوم الدنيا، ضمن أنظمة تعليمية ثنائية التوجه، منشطرة الكيان، فعانت الأمة من هذا التناقض ما عانت، حتى ظهر ذلك التباين واضحاً في فكر وسلوك الأجيال التي تخرجت على هذين النظامين المختلفين، فمُني بعضهم بالجحود والغرور، وحصل للبعض شك في حقائق الدين، واعتقاد بتناقضها مع العلم، فلم يحقق كلا النظامين للأمة أهدافها المنشودة في ظل هذا الفصل التعسُّفي بين هاتين المعرفتين الضروريتين.

إن المسلمين الأوائل لم يعرفوا في أنظمتهم التعليمية هذا الفصل بين علوم الدين، وعلوم الدنيا، فكلاهما مأمور به، وقد كان السلف يجمعون بين العلْمين، وينتفعون بهما جميعاً، فقد كان العلم ملتحماً بالدين، متعلقاً به منذ نشأته الأولى، والنظم التربوية " إنما انطلقت من النظرة الموحدة إلى الوجود كله باعتباره مجموعة من السنن الإلهية تتعاون وتتآزر؛ لتُنتج نظرة واحدة متكاملة، تقود الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى "، فلم يحصل الفصل بين العلمين في ظل الأنظمة التربوية الإسلامية؛ فقد ارتبط تطور كثير من العلوم الطبيعية بالعديد من فقهاء الأمة وعلمائها الشرعيين؛ وإنما حصل الفصل والاختلال عند الأوروبيين حين انتقلت علوم المسلمين إليهم.

إن الذي يجب أن يرسخ في فكر الناشئ المسلم ويتربى عليه ضمن منهج التربية العقلية: أن العلوم الشرعية، والعلوم الكونية تمثلان معاً مظاهر لكلمات الله تعالى وإرادته، والإنسان محتاج إلى العلمين معاً بالقدر الذي يعرف به كيف يعبد ربه، وبالقدر الذي يُقيم به شئون حياته، فالمعرفة الكونية: " تمثل الإبداع الإلهي، والصنعة الربانية المحكمة "، ومن خلالها يستدل العاقل على قدرة الله تعالى وحكمته، ونفوذ إرادته، والوحي يمثل أيضاً الإبداع الإلهي المعجز في البيان والتشريع، وكلاهما يحققان في الإنسان هدف العبودية لله تعالى، والصلة بينهما وثيقة، لأن صدرهما واحد، هو الله تعالى، فالفصل بينهما إنما هو - في الحقيقة - فصل ظالم بين الخالق والمخلوق؛ لأن العلم الطبيعي يفتقر للوحي الرباني في تحديد غاياته، ومنهج توظيفه، ولا يمكن الوصول إلى الموضوعية الصحيحة في تناول هذه العلوم إلا من خلال شمول الرؤية في التصور الإسلامي: " فتأتي المعرفة والعلوم عندئذ سليمة الغاية والتوجه، تحقق الحاجات المادية والروحية للإنسان، وتوفر له الرفاهية المادية، والطمأنينة النفسية "، كما أن النظر في الكون والتعرف على نواميسه ليس غاية في حد ذاته؛ بل هو وسيلة لإصلاح علاقة الإنسان بربه، وعمارة الأرض على منهج الله تعالى؛ ولهذا جاءت الآيات الكثيرة في القرآن الكريم توجِّه إلى النظر في هذا الكون والتفكر فيه، ولو صحَّ أن يكون في الطبيعة الفطرية التي خلقها الله تعالى ما يصدُّ عن سبيله: ما وجَّه للنظر فيها، وتأمل خلْقها.

وبناء على ما تقدم فإن المعرفة في التصور الإسلامي وحدة واحدة، غير قابلة للتجزئة، وهي شاملة للدين والدنيا معاً، مصدرها وغايتها الله جل جلاله، فالمنهج التربوي الحق هو الذي ينسب هذه المعارف كلها إلى خالقها وموجدها سبحانه وتعالى، وينطلق في تعليمها للفتاة المسلمة من مبدأ العبودية لله تعالى، ويحاول أن: "ينجح في المزج بين ماهو دنيوي وماهو ديني" ، باعتبار أن علوم الدين ضياء القلب، وعلوم الطبيعة ضياء العقل؛ بحيث تلتئم في شعور المسلم المعرفة الغيبية عن طريق الوحي، بالمعرفة الحسية عن طريق الطبيعة، كما قال عالم الطبيعة بول كلارنس ابرسولد: " إننا نصل إلى الإيمان الكامل بالله عندما نمزج بين الأدلة العلمية والأدلة الروحية "، فليس في الكون عبث كما قال الله U: { َومَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاًً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَذِينَ كَفَرُوا مِن َالنَّارِ } [ص:27]، وها هو العلم الحديث بمكتشفاته المذهلة، يفتح باباً عظيماً لإدراك وحدة الكون، والتوافق فيه بين الأهداف الروحية، والمكتشفات المادية، وقد صرَّح جمعٌ من العلماء الحاصلين على جائزة نوبل في العلوم الطبيعية بتطابق الدين مع العلم الطبيعي.