الصفحة الرئيسة @ المقالات التربوية @ التربية العقلية @ 9ـ ربط المعارف العقلية بالله تعالى
إن الناظر في تاريخ الفلسفة يجده سجلاً حافلاً للكفاح العقلي للإنسان : بحثاً عن السعادة، حتى إن جوهر الثقافة بما تحمله من القيم، والمعارف، والآداب أصبح يتغيَّر بصورة دائمة عبر تاريخ الإنسان، متأثراً بهذه المذاهب والتصورات الفلسفية المتناقضة والمتباينة، ومهما حاول الإنسان الاهتداء فإن " العقل لن يهتدي إلا بالشرع "؛ فأنَّى له أن يضع لنفسه الرؤى الشمولية العامة، والغايات الإنسانية الكبرى، التي تكفَّل بها الوحي رحمة بالعباد، فكان لا بد أن يسبق الإيمان بالله تعالى إلى عقل الإنسان قبل أن تسبق إليه المعرفة: فينضبط بالرسالات الإلهية، ويأخذ عنها مسترشداً ومهتدياً، حتى يصبح الدين الحق وحده: " المقياس الوحيد للأفكار والمفاهيم عن الحياة والواقع، والأشياء والأفعال ".
إن طلب الحق اليقيني، والأخذ به هو في حد ذاته هدف أساس للتربية العقلية في الإسلام، وهو المعرفة الصحيحة الموافقة لمنهج الله تعالى، والتي توصلت إليها البشرية، واقتنعت بها عن يقين، فإن أول " العلم الخطرة الصادقة … وآخره اليقين: وهو استقرار الحق وانتفاءُ الشك "، فلا بد للمعرفة من اليقين المنافي للشك، والمحبة الدافعة للإذعان، كما قال الله تعالى: { … فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاّلُ …} [يونس:32]، فليس الهدف من التربية العقلية امتلاك العلم فحسب، ولكن تكوين الشخصية المحبة للحق، الباحثة عنه؛ فإن الإنسان إذا لم تكن له إرادة صادقة في طلب الحق بهدف الانقياد له: فإن الحجة مهما كانت واضحة وقوية فإنها لن تؤثر في قلب مظلم أغلف، كما قال الله تعالى: { وَأَقْسَمُوا بِالَّلهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُم آيَةٌ ليُّؤمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ الَّلهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [الأنعام:109].
وإن من مستلزمات محبة الحق: بغض الباطل ورده كما قال الله تعالى: { … فَمَن يَّكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَالَّلهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [البقرة:256]، فلا يمكن للنَّقيضين أن يجتمعا في عقل واحد، فإذا استقر أحدهما دفع الآخر ولا بد، فمنهج التربية العقلية " لا يكتفي بالجمع بين المعارف المكتسبة في العلوم الحديثة وبين المعرفة الخالدة، ولكنه يؤكد على ضرورة خلو المعارف الجديدة من كل ما يصطدم بالتصور الإسلامي "، فإن الأمم عادة لا تقبل في تربية وتعليم أبنائها ما يتعارض مع عقائدها، وتصوراتها المقدسة، يقول الفيلسوف فينيلون في رسالته الخاصة بتربية الفتيات، والتي ألَّفها عام 1680م: "عوِّد الفتيات على ألا يقبلن بيسر بعض الروايات غير المسندة"، بل حتى دعوى الحياد هي الأخرى مرفوضة في سياسات الأمم؛ فإن " التربية أياً كانت عقدية أو مذهباً أيديولوجياً يستحيل أن تكون محايدة، حتى التربية العلمانية هي تربية غير محايدة في مضامينها، وتوجهاتها، وأساليبها؛ إذ إن لها موقفاً ورؤية من الكون، والخالق، والوجود، والأحداث المعاصرة "، رغم " أن روح البحث العلمي في ثقافة الغرب وحضارته قد نشأت مترافقة مع خيبة أمل في الدين كما فُهم في ظل تلك الحضارة "، ومع ذلك بقيَ للدين عندهم، وعند غيرهم من الأمم تأثيره الواضح في سياسات التربية والتعليم؛ ولهذا لا يُستغرب صدور التوصيات في بلاد المسلمين بالتأكيد على الثوابت الإسلامية في المناهج الدراسية.
إن أعظم ما يمكن أن يجنيه المسلم من منهج التربية العقلية: معرفة الله تعالى، فهي غاية الغايات، ومنتهى الإرادات، وهدف كل شيء في الوجود، حيث يُدرك بيقين في طريق تعلُّمه: أن المعرفة بشمولها وجزئياتها لا تزيد عن كونها إرادة من إرادات الله تعالى، ومخلوقة من مخلوقاته، فالله تعالى هو أصل المعارف ومنبعها، وهو الخالق والمعلم، والإنسان مهما بلغ مدين لله تعالى في وجوده وعلمه، ومن هنا لا يحق للإنسان أن يتصرف بمعارفه في الكون كشخصية مستقلة عن إرادة الله تعالى، إرادته الكونية بالإيمان والتصديق، وإرادته الشرعية بالعمل والتطبيق، فلا بد أن تكون غاية ثمار جهده العقلي: معرفة الله تعالى، وما يقرب إلى محبته، ويُباعد عن غضبه، فلا تكون المعرفة التي خلقها الله تعالى وسيلة صدّ له عن الحق، بحيث ينشغل بها عن مُوجدها، فيحتجب بالعلم عن المعلوم، وبالوسيلة عن الغاية؛ فإن المعرفة - أياًّ كانت - " سلاح ذو حدين، يمكن أن يستعملها صاحبها أداة للنفاق والسيطرة، ويمكن أن تستعمل للخير وخدمة البشرية "، وبغير هذا الفهم المحدد للمعرفة وأهداف استخدامها: فإن الإنسان يصبح آلة حيوانية، تصدر وتنبعث عن دافعين حقيرين، أحدهما: دافع الغريزة والشهوة، فلا يعرف حقاً ولا يبطل باطلاً إلا ما أشرب من هواه، والثاني: دافع العظمة والذكر، فلا يكون لله تعالى في عمله ونيَّته نصيب، وفي هذا المعنى يقول الله تعالى: { تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا للَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }.
ومن هنا فإن حقائق الكون التي تظهر للإنسان ليست منحصرة في ذاتها؛ بل تدل على ما وراءها من الحق الغيبي المحجوب عن الحواس، والوقوف عند حدِّ المعرفة الحسِّية الظاهرة هو في الحقيقة قصور عن الانتفاع الصحيح بحقائق الكون، وتشبُّهٌ بالحيوان الأعجم في إشباع حاجاته المادية، كما أن التفكير يصبح عقيماً قاصراً إذا لم يصل بين عالم الغيب وعالم الشهادة، برباط وثيق يُعطي لعالم الغيب، والدار الآخرة حجمهما اللائق بهما من ساحة التفكير الإنساني ضمن مفهوم الإسلام المتزن عن الحياة الدنيا، والحياة الأخرى، بما يحقق هدف الإسلام من جعل الحياة الدنيا مزرعة للآخرة، وفي هذا المعنى يقول الرسول e مبيناً حال المشتغلين بالدنيا عن الآخرة: المتعلِّقين بعالم الشهادة عن عالم الغيب: ((إن الله يبغض كل جعْظَري جوَّاظ سخَّاب بالأسواق، جيفة بالليل، حمار بالنهار، عالم بأمرالدنيا، جاهل بأمر الآخرة)).