الصفحة الرئيسة @ المقالات التربوية @ التربية العقلية @ 6ـ تحرير العقل المسلم من سلطان الفكر الغربي
إن لكل حضارة أصولها الخاصة التي تميزها عن غيرها، وتعتمد عليها، وتنطلق منها، وإن من أبطل الباطل - في الحياة المعاصرة - أن تكون هناك ثقافة عالمية يشترك فيها بنو البشر ممتزجين على اختلاف خلفياتهم الدينية، واللغوية، والجنسية، والوطنية، وأمة الإسلام كأي أمة من الأمم المتحضِّرة تعتز بحضارتها وتاريخها الطويل المجيد، ولا يمكن لها أن تعيش مطمئنة خارج نطاق هذه الحضارة؛ فإن " حالة المسلمين الاجتماعية هي غير حالة الغرب من كل وجه، حتى إن الباحث ليرى بالتأمل اليسير أن هذين العالمين لا يمكنهما أن يتَّحدا على أمر في شأن من الشؤون العمرانية إلا إذا فنيَ أحدهما في جسم الآخر، وصار جزءاً منه ".
ولما كان الغربيون لا يرون مستقبلاً لغير مشروعهم الحضاري، ولا يعترفون بغير إنجازهم التاريخي: كان لا بد لهم من فرض حضارتهم - بكل ما تحمله من إخفاقات - ووصايتهم على الشعوب المستضعفة بصورة عامة، والشعوب المسلمة بصورة خاصة؛ من خلال الغزو الفكري، بوسائله المختلفة التي تنتزع بقايا الخير العقدي، والفكري، والأخلاقي عند المسلمين، وتعرِّض ثقافتهم لتسميم خطير هدام، فخرجت من جراء هذا الغزو المفسد أجيال مسلمة مقتنعة بخداع الحضارة الغربية، مسلوبة الإرادة الفكرية، ضعيفة في شخصيتها الاستقلالية، لا تملك قرارها، ولا تعرف هدفها، وأصبحت التربية العربية قاصرة وضعيفة في مضامينها وأساليب عملها، ولن تستطيع أن تواجه أو تواكب العولمة، وتشارك في الحركة الحضارية المعاصرة، وهي مثقلة بجوانب الضعف والقصور العلمي والتربوي العام.
إن استمرار الصراع وبقاءه محتدماً بين أمة الإسلام وأمم الغرب هو قضاء الله تعالى للأجيال المسلمة، فإن عالم الغرب بكل انحرافاته، وضلالاته لن يزول سلطانه بالكلية من عالم الوجود، بل قد يزيد نفوذه وبروزه الحضاري في ظل مفهوم العولمة في المستقبل؛ فقد قال الرسولe: (( تقوم الساعة والروم أكثر الناس ))، فلا بد لأمة الإسلام أن تضع حلاً جذرياً يحدُّ من سيطرة الغرب ونفوذه بالباطل على مقدراتها، وسياستها، وفكرها، وأخلاقها، وتعمل جادة على تحرير أفرادها عامة والشباب من الجنسين خاصة من سلطان الغرب الفكري، وغزوه العقدي، والأخلاقي المدمِّر لقدرات الأمة، ومواهبها وذلك من خلال مجموعة من الوسائل:
الوسيلة الأولى: إثارة الاعتزاز في نفوس الناشئة بالمشروع الحضاري للأمة المسلمة، من خلال استعراض التاريخ، وما كتبه الغربيون المعتدلون عن حضارة الأمة، وإنجازاتها المادية، والمعنوية الكبرى، حتى تستقر في نفوسهم قدرة الأمة على النهوض مرة أخرى، وتقلُّد زمام الحضارة من جديد، وتزول عنهم مشاعر الانهزام أمام الحضارة الغربية المعاصرة وإنجازاتهما المادية، ففي الوقت الذي كانت تضم المدرسة الإسلامية الواحدة في القرن الثامن الهجري مائتي فقيه عالم، كانت أوروبا تقتل علماءها بلا هوادة؛ حتى إن القاضي الفرنسي حين أصدر حكمه بقتل الكيميائي لافوازييه عام 1794م قال: "إن الجمهورية لا حاجة بها إلى العلماء".
الوسيلة الثانية: إقناع الناشئة بإمكانية قيام الحضارة الإسلامية على غير النهج الغربي؛ فإن حضارة الغرب المعاصرة – رغم تفوقها المادي – ليست بأفضل من الحضارات الأخرى الكثيرة المعاصرة منها أو البائدة، والأمة الإسلامية في نهضتها الأولى قامت على نهج مستقل، دون إشراف أي أمة من الأمم، وإنما هلكت الأمَّة في هذا العصر بسبب انجذابها إلى حضارة الغرب، وقبولها بوصايتها الثقافية والسياسية، حتى فقدت الأمة قدرتها على الابتكار والتجديد، وأصبح همُّها محصوراً في المحاكاة والتقليد، في الوقت الذي أدركت فيه أمة اليابان سرَّ الحضارة – بعد دهر طويل من الضمور والتخلُّف – فأخذت بأسبابها، مستفيدة من كل الأنظمة التربوية المعاصرة، مع استقلال الذات والشخصية، فأقامت نهضتها الحديثة على غير النمط الغربي في كل جوانبها، فلن تعدم أمة الإسلام مخرجاً من أزمتها الحضارية المعاصرة كمخرج أمة اليابان من تخلفها، فإن نجاح التنمية في هذا العصر يعتمد – أكثر من أي عصر مضى – على البحث العلمي الجاد، الذي يُنتج العلم كقيمة من قيم الحياة، ومنهاج يُوصل إلى الكشف الدقيق عن المادة، ونواميس الكون، " فعلى المربين في البلاد العربية والإسلامية أن يعلموا الشباب كيف يستطيعون أن يكتشفوا طريقاً يتصدرون فيه موكب الإنسانية لا أن يعلموهم كيف يواكبون أمم الغرب في طرائقهم، وعاداتهم "، وأن يقنعوهم بأن الغرب لن يسمح بنقل التقنية إلى بلاد المسلمين، وأن الطريق الوحيد والمضمون أمامهم للتقدم الحضاري هو البحث العلمي الجاد، معتمدين في ذلك على توفيق الله تعالى، وما بثَّهُ في منهجه المنزَّل من أسباب النهضة، والتفوق الحضاري.
الوسيلة الثالثة: تربية الناشئة على حسن الانتقاء عن الحضارات الإنسانية المعاصرة، فإن الانتقاء هو الأصل في التبادل العلمي بين الشعوب، ولم تعرف أمة من الأمم هذا الانفتاح الثقافي المتسيِّب الذي يعيشه المسلمون، فإن أمة الإسلام في نهضتها الأولى اقتبست عن الأمم التي عاصرتها علوماً ومعارف متنوعة، إلا أنها أخذتها في صورتها الخام فهضمتها، وشكَّلتها من جديد في قوالب توافق نهجها وتصوراتها، والغربيون أنفسهم كانوا من أشد الأمم انتقاءً عن الحضارة الإسلامية، فأخذوا من علومها ومعارفها ما اعتبروه مصلحة لهم، ونبذوا العقائد والأخلاق، وكذلك اليابانيون والصينيون في نهضتهم المعاصرة قلَّدوا الغربيين في التقنية، واستفادوا من أنظمتهم التربوية المختلفة إلا أنهم فصلوا بين العلم كمعرفة مشاعة، وبين الثقافة كخصوصية أمميَّة، يقول الباحث الأمريكي إدوارد بيوشامب الخبير بالنظام الياباني التربوي: "إن أيَّ نظام تعليمي يشكِّل نمواً طبيعياً لأوضاع ثقافية محددة، وإن إبعاد ذلك النظام عن الأوضاع التي نشأ فيها يعني فقدانه لمسوغات وجوده، فالنظام الياباني لا يمكن اقتلاعه وغرسه بنجاح في ثقافة أمريكية مختلفة اختلافاً جذرياً عن الثقافة اليابانية، فإن أردنا تبني النظام الياباني كان لزاماً علينا إعادة بناء مجمل حياتنا الثقافية"، إلى أن قال: "فقد يتبادر إلى ذهن المرء السؤال التالي: هل هناك شيء يمكن للأمريكيين تعلمه من اليابانيين؟ إن كان ذلك الشيء هو أخذ عناصر معينة كاملة من النظام الياباني فستكون إجابتي بالنفي قطعاً، ولكن لا تزال هناك بعض الدروس العامة ذات الأهمية، التي يمكننا تعلمها من دراسة النظام الياباني"، وبناء على ذلك فإن استيراد المعرفة العلمية من بيئة مغايرة لن يأتي مُفرَّغاً من ثقافة أهله، وبيئته الأصلية التي نشأ فيها، فإن الحياد العلمي في هذه المسألة لا يكاد يصدق، ومن هنا فإن من حق الأمة الإسلامية المهتدية؛ بل من واجبها أن تسلك نهج الانتقاء الحذر عن غيرها بما يوافق مصالحها المعتبرة غير المتوهمة، ولا يعارض دينها، ولا أصول ثقافتها، فإن الحكمة ضالة المؤمن، فليس التحرر من سلطان الغرب يعني التقوقع والانغلاق، كما لا يعني الانفتاح على الحضارات الأخرى: الذوبان والاضمحلال.