الصفحة الرئيسة @ المقالات التربوية @ التربية الإيمانية @ 51ـ الدور التربوي للغة العربية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين، رسول الهدى، وخير الورى، وأفضل من نطق بالعربية وقرأ القرآن نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
أمّا بعد.. فقد ارتبط الإنسان منذ أول أمره باللغة، واختُصَّ – من دون سائر المملكة الحيوانية – بالقدرة البيانية، والملكة اللسانية، حتى اصطلح بعضهم على تسميته حيواناً ناطقاً، فميَّزوه بأخصِّ خصائصه، التي ينفرد بها عن سائر الحيوان.
ولئن كان في هذه التسمية ما يشين الإنسان حين نُسب إلى عالم الحيوان، فإن فيها– مع ذلك – من حجم التمييز، وشدة التفريق، وما يضع الحد الفاصل بين عالم الإنسان وعالم الحيوان؛ وذلك حين تقف اللغة الإنسانية، بنظامها، وألفاظها، وإشاراتها حاجزاً مانعاً، وحائلاً شامخاً يمنع الاختلاط بين النوعين، ويحول دون الظن بوحدة أصل الجنسين.
وأما التفريق بين عالمي الإنسان والحيوان بالعقل، الذي خصَّ الله تعالى به الإنسان دون سائر أنواع الحيوان، فإن وظيفة عقل الإنسان التفكير، والإدراك، والتذكر، ونحوها من العمليات العقلية التي يستحيل أن تعمل بغير لغة؛ إذ هي مادة تشغيل العقل، ووقوده الرئيس، بل ربما كان التفكير – الذي هو أهم العمليات العقلية – واللغة شيئاً واحداً.
ولما كانت العلاقة بين اللغة والتفكير عند الإنسان بهذا القدر الكبير من عمق التداخل، وقوة الصلة: برزت أهمية الثقافة باعتبارها كياناً مفتقراً إلى اللغة في حفظها ونقلها؛ إذ هي المخولة وحدها – دون سائر مكوِّنات المجتمع– لاستيعاب عناصر الثقافة بأنواعها، وحفظ جميع مفرداتها، فهي وعاء خصوصيات المجتمع، التي تميزه عن غيره من المجتمعات، ومستودعه الأكبر والأهم لحفظ تراثه ونتاجه، ثم هي بعد ذلك أداة المجتمع الوحيدة لنقل عناصر الثقافة ومكوناتها إلى الأجيال، وحفظها من الضياع والاضمحلال، وضمان استمرارها، والأمم قاطبة تحرص على ثقافاتها الخاصة؛ فتهديد أمة ما في ثقافتها، لا يعدو أن يكون تهديداً لها في أخص خصوصياتها، ووحدة كيانها، ومبدأ وجودها.
ومن هنا كان مبدأ الصراع اللُّغوي بين الأمم؛ إذ إن قوة لغة أمة من الأمم، وسعة انتشارها، وتماسك بنائها هو في الحقيقة دليل قوة ثقافتها، وتماسك عناصرها، وضمان استمرارها وهيمنتها، وفي الجانب الآخر، فإن ضعف لغة أمة من الأمم، ومحدودية انتشارها، واختلال بنائها، يتبعه – بالضرورة– ضعف في ثقافتها، وتماسك عناصرها، وتهديد لذاتها، وأصول هويتها؛ لذا كان الصراع عنيفاً بين الأمم لفرض اللغة، الذي يتبعه – بالضرورة – فرض الثقافة، ثم يكون من نتاج ذلك حصول الهيمنة الفكرية للأمة المتغلبة خارج حدود وطنها، ولا يبعد بعد ذلك حصول الهيمنة العسكرية، فإن من المعلوم تاريخياً أن الغزو الفكري الثقافي يسبق في العادة الغزو العسكري، فَيُمهِّد له النفوس والأذهان، حتى إذا وقع كان رفضه ضعيفاً.
ولمَّا كانت القضية اللُّغوية تحتل هذه المكانة الخطيرة في حفظ الثقافة من جهة، وفي التمكين لها من جهة أخرى، فإن الأمة المسلمة بحكم مسؤوليتها الشهادية على سائر الأمم، كما قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمَّةً وَسَطًًا لِتَكُوْنُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143]، وبحكم طبيعة منهجها الفكري الثقافي المتميز، الذي لا يتقبل الشرْكة مع غيره، كما قال الله تعالى: {صِبْغَةَ الله وَمَنْ أحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُون} [البقرة:138]، فإنه لا يمكن للأمة – بناء على ذلك – أن تكون محطَّ تأثير ثقافي وافد، فضلاً عن أن تكون صدًى لثقافة غيرها، حين تتبنَّى لغة أجنبية وافدة، فتفرضها على أفرادها، لتنازع اللغة الأصلية سلطانها، وتنافسها في مواقعها.
ولئن اتفق لجميع الشعوب قاطبةً أن تهمل لغاتها القومية؛ فإن الأمة الإسلامية بعربها وعجمها لا يمكن أن تفرِّط في اللغة العربية – بصورة خاصة – لكونها لغة العبادة من جهة، ولكونها اللغة الحاملة لحجة الله تعالى على خلقه إلى يوم القيامة من جهة أخرى، فبقاؤها مرتبط ببقاء الدين، حين كانت ولا تزال وعاء الدين الخاتم، والمعبِّر عنه بلسان عربي مبين.
وتحتدم الصراعات بين الشعوب في ساحات الميادين الثقافية، وتشتد كأبلغ ما يكون حين تمسُّ هذه الصراعات الأصول الثقافية، والجذور الفكرية، التي تعتز بها الأمم عبر تاريخها وحضارتها، وتبرز اللغة القومية لتكون محور جزء ضخم من هذه الصراعات، حين تنفرد اللغة بمسؤولية حفظ الثقافة، ونقل التراث، فبقدر حجم الحضور اللُّغوي لأمة ما يكون حجم حضورها الثقافي؛ إذ من الصعب – إن لم يكن من المستحيل – فصل اللغة عن أصولها الثقافية والفكرية، كما أن من الصعب أيضاً تعلُّم لغة ما مجرَّدة عن أصولها الثقافية والاجتماعية، ثم إن التأثير الثقافي المنبعث من الوعاء اللُّغوي لا يمكن أن تنفك عنه تجربة المتعلم، ولاسيما المتعلمين من الأطفال، حين تكون خطوات بناء هويتهم الثقافية والفكرية واللغوية في مراحلها الأولى، وتزيد القضية تعقيداً وخطورة حين يكون التأثير السلبي المتوقع ينحطُّ على اللغة العربية.
وعلى الرغم من وضوح هذه الوجهة الخطيرة في قضية تعلم اللغات الأجنبية، ولاسيما للأطفال الصغار، وثبوتها علمياً فإن نزاعاً ما لا يزال يشتد بين بعض التربويين حول هذه القضية، مما يدفع إلى مزيد من البحث في فلسفة اللغة وطبيعة علاقتها بالإنسان من زوايا متعددة، يمكن من خلالها تجلية المسألة بصورة أفضل، وأكثر وضوحاً.