الصفحة الرئيسة @ المقالات التربوية @ التربية الإيمانية @ 50ـ الأهمية الثقافية للغة العربية
يكتنف الحديث عن نشأة اللغة الإنسانية شيءٌ من الغموض، الذي يصعب معه الجزم القاطع بمذهب معين؛ وذلك يرجع إلى أن اللغة ارتبطت بالإنسان منذ نشأته الأولى، التي تعتبر بالنسبة للباحثين غيباً يصعب القطع فيه برأي معين دون معارض، ولعل هذا الغموض هو الذي منع كثيراً من الباحثين من الخوض في الحديث عن نشأة اللغة وأصلها.
وبالرغم من أن القرآن الكريم لم يستخدم كلمة " لغة " في آياته، وإنما استخدم مكانها كلمة " لسان " في عدة آيات: فإنه مع ذلك بيَّن بوضوح ارتباط الإنسان الأول باللغة – معرفة وبياناً– فقد قال سبحانه وتعالى في قصة خلق أبي البشر آدم عليه السلام: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:31-33]. وقد اختلف المفسرون في بيان المراد بالأسماء التي علمها الله تعالى آدم عليه السلام على أقوال منها: أنه علمه أسماء جميع الأشياء على الإطلاق من الجليل والحقير، ومنها أنه علمه جميع اللغات الإنسانية، ومنها أنه علمه صفات الأشياء ونعوتها وخواصها، ومنها أنه علمه الأدوات التي سوف يستعملها، ومنها أنه علمه الأجناس والأنواع، ومنها أنه علمه أسماء ذريته وأسماء الملائكة إلى غير ذلك من الأقوال.ومع هذا الاختلاف فإنهم لم يختلفوا في مبدأ أن ما تعلمه آدم عليه السلام كان لغة يفهم بها، ويعبر من خلالها. ولعل الراجح من بين هذه الأقوال ما رجَّحه القرطبي: أن الله علم آدم عليه السلام أسماء كل شيء على وجه العموم، فقد جاء ذلك مصرحاً به في حديث الشفاعة المشهور، حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، فيأتون آدم فيقولون: أنت أبوالناس، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء…", وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "علمه أسماء كل شيء : الجَفنة والمِحْلب"،ومع ذلك فإن قضية الأسماء تبقى قابلة للبحث والدراسة ولا يصح فيها الجزم القاطع بقول من الأقوال.
وبناء على أن الله تعالى هو الذي علم آدم عليه السلام اللغة فقد ذهب بعضهم إلى أن اللغة في أصل نشأتها توقيفية، وضعها الله تعالى لعباده للتفاهم والتعارف، وقد خالف هذا التوجه طائفة من العلماء حيث ذهبوا إلى أن اللغة وضعية، يضعها الإنسان لنفسه، يحاكي بها الطبيعة الفطرية من حوله، وتوسط آخرون بين الاتجاهين، فاللغة عندهم وُضعت ابتداء من عند الله تعالى قابلة للتطور، والتفريع، والاشتقاق، والاستنباط، فطورها الإنسان، واشتقَّ منها متفاعلاً معها. ولعل هذا الاتجاه هو الراجح؛ فإن الحسَّ الواقعي يدلُّ عليه، فالإنسان منذ القديم وهو يضع الأسماء للأشياء مستنبطاً، ومستخرجاً من أصل لغته، يطور، ويشتق، ولا ينتظر وحياً من عند الله تعالى بأسماء جديدة لمخترعاته، واكتشافاته. والله سبحانه وتعالى حين علم آدم عليه السلام اللغة لم يكن ذلك" على سبيل التوقيف؛ بحيث لا يقع النطق إلا بما علمه، بل أعطاه الاختيار في التطوير والتغيير، بناء على ذلك طوَّر أبناؤه اللغة الأولى".
وأما القول بأن اللغة في أول أمرها وُضعت اعتباطاً، بمعنى أن اللفظة وضعت بإزاء المعنى دون مناسبة عقلية بينهما، وأن إدراك المعاني يسبق وضع الألفاظ، بمعنى أن الإنسان يدرك المعنى في الوجود من حوله ثم يسعى بعد ذلك في وضع لفظ يدل عليه، فعلى الرغم من وجاهة هذين الاتجاهين للبحث والنظر، فإن أوجه منهما، وأولى بالبحث والنظر: استشعار النعمة الربانية بتمكين الإنسان من استخدام اللغة، فيرمز بالأسماء للمسميات– أشياء وأشخاصاً– فيكفيه للتعريف بالنخلة، والجبل، والنهر، والأشخاص بهذه المسميات الرمزية، دون أجرامها الحقيقية، وللناظر أن يتخيل مدى الصعوبة في التعريف بهذه المسميات بغير رموز لغوية، فاستشعار النعمة بهذه الرحمة الربانية والتأكيد على ذلك علمياً أولى بكثير من البحوث الأنثروبولوجية، المتعلقة بعلم الأجناس، وتطور الإنسان، وما لا سبيل للوصول إليه إلا من خلال الوحي، فيقتصر عليه، دون مواطن الظن التي يكثر فيها الخطأ.
وحول اللغة العربية باعتبارها لغة لمئات الملايين من الناس فإنها تتوسط اليوم ما يزيد على ثلاثة آلاف لغة مستخدمة في العالم، وقيل أربع آلاف لغة، وقيل خمس آلاف لغة ولهجة، ما بين لغة واسعة الانتشار، ولغة متوسطة الانتشار، وأخرى محلية، ورابعة ضعيفة أو قريبة من الاندثار، فمن اللغات ما يتكلم بها ملايين البشر، ومنها ربما لا يتحدث بها إلا العشرات من الناس. فاللغة العربية تشترك مع بعض اللغات الأخرى في نسبتها إلى السامية، نسبة إلى سام بن نبي الله نوح عليه السلام، وقيل إن أوَّل من تكلم بها نبي الله آدم عليه الصلاة والسلام، وقد كانت – في أول أمرها حين تكلمت بها حِمْير، ثم تكلم بها نبي الله إسماعيل عليه السلام على لسان قريش– محصورة الانتشار في الجزيرة العربية، ثم انتشرت بعد الفتح الإسلامي، وأصبحت لغة لأقوام كثيرة، ودخلت حروفها وكثير من كلماتها في بناء العديد من اللغات الأخرى الحية.
وقد لاقت اللغة العربية من جهد علمائها في حفظها، وضبطها، والعناية بها ما لم تلقه لغة أخرى من علمائها عبر التاريخ الإنساني، ويُلْحظ ذلك بوضوح في كثرة ما أُلِّف في فنون اللغة العربية وآدابها من العلوم والمعارف الكثيرة والدقيقة،التي جعلت اللغة العربية – دون غيرها من اللغات – لغة مضبوطة محكمة ثابتة، وما ذلك إلا لكونها لغة كتب الله تعالى لها الخلود، وحفظها بحفظ القرآن المُنزل، تحمل في طياتها الثبات عبر كل العصور المتعاقبة، "ولم تعرف الإنسانية – على طول تاريخها– لغة خلَّدها كتاب إلا اللغة العربية"؛ ولم يعرف الرسل عليهم جميعاً الصلاة والسلام معجزة لغوية بيانية إلا المعجزة القرآنية التي خصَّها الله للرسالة المحمدية، فانفردت اللغة العربية– من بين سائر اللغات– بالخلود؛ لكونها كانت ولا تزال تحمل حجة الله ورسالته الأخيرة إلى جميع الناس، وانفردت أيضاً عن غيرها بالقدرة الإعجازية؛ وذلك حين أنزل الله القرآن الكريم بلسان العرب، ولغتهم التي يعرفونها، وكلامهم الذي يتقنونه، نظماً وشعراً، ومع ذلك عجزوا عن معارضته، ومحاكاة نظمه، والإتيان بمثله، أو بشيء من مثله، فلا تُعرف لغة إنسانية قط كانت موضع إعجاز لكتاب منزل من عند الله تعالى إلا اللغة العربية وحدها، ولم تعرف البشرية أمة تشرَّفت بلغتها كأمة العرب؛ فقد رُوي جمع من الأحاديث النبوية في فضل العرب، وليس ذلك قاصراً على جنس العرب؛ بل إن هذا الشرف ينال كلَّ من تكلم بلسان العرب؛ ففي الحديث: "… ألا وإن العربية ليست لكم بأب ولا أم؛ وإنما هي لسان، فمن تكلَّم بالعربية فهو عربي"؛ ولهذا فإن العرب تطلق وصف الأعجمي على من لا يتكلم بالعربية حتى وإن كان أصله عربياً.
ومن هنا " فإن القول بأن اللغة العربية من الدين لا يُعد تزيُّداً أو مبالغة، بل هو قول يستند إلى كثير من الأدلة، حيث يُشكِّل فهم اللغة مقدمة لفهم المصادر الأساسية – القرآن والسنة – ويشكِّل الأداة لبناء المفاهيم الإسلامية"، فاللغة العربية" هي الوعاء الذي احتضن الوحي وعبَّر عنه، فقد أكَّد سبحانه على الصلة بين لغة النبي r وبين الوحي الذي أنزله في آيات كثيرة بما يكرِّس الارتباط بين لغة القوم والوحي المنزَّل".
وقد جاء الوحي الرباني بدين الإسلام فشدَّ بناء اللغة العربية, وأرسى قواعدها، وهذَّبها، وأضاف إليها، وأعطى كلمات منها معانيَ خاصة جديدة، وغيَّر معانيَ كلمات أخرى، وهكذا حتى "أصبح للغة العربية خاصية متميزة لا تستطيع اللغات الأخرى أن تشاركها فيها، ولا تستطيع هي أن تجاوزها؛ ذلك لأنها لغة أمَّة، ولغة فكر، ولغة دين، حيث تمثل الرباط الذي يجمع المسلمين بالتشريع والعقيدة"، ولعل مِنْ أوضح ما يبين صلة اللغة العربية بالدين: ارتباطها بالعبادة؛ فالصلاة المفروضة على كل مكلف – أياً كان أصله ولغته – لا تصح إلا بالعربية، فقراءة القرآن لا تجوز إلا بها،فاللغة العربية – في التصور الإسلامي – ليست مجرد لغة من اللغات، يصح معها ما يصح مع غيرها، وإنما هي لغة التعبد والعقيدة والتشريع؛ إذ لا سبيل لفهم الإسلام إلا بها، ولا طريق للتعبد إلا من خلالها.
ومن هنا فإن هذه الخصائص التي تميزت بها اللغة العربية على سائر اللغات الأخرى، وانفردت بها عن غيرها: لا تسمح للأمة الإسلامية – في أي عصر، وتحت أي ظرف – أن تتعامل معها كما تتعامل مع غيرها من اللغات، فضلاً عن أن تهملها، أو أن تقدم عليها غيرها، أو تسعى في تخلُّفها واندثارها، ولهذا لما حاول بعضهم إقرار الكتابة بالأرقام الإنجليزية بدلاً من الأرقام المتعارف عليها بين المسلمين عبر تاريخهم الطويل : صدرت الفتاوى الشرعية بالمنع من ذلك.