الصفحة الرئيسة @ المقالات التربوية @ التربية الإيمانية @ 48ـ العلاقة بين الإنسان واللغة


معلومات
تاريخ الإضافة: 24/8/1427
عدد القراء: 2249
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

صرَّح بوضوح عن العلاقة الشاملة بين الإنسان واللغة شيخ الإسلام ابن تيمية في القرن الثامن الهجري حيث قال:" إن اعتياد اللغة يؤثر في العقل، والخلق، والدين تأثيراً قوياً بيناً"، ولعل في النقاط التالية ما يؤكد ويجلِّي عبارة الشيخ رحمه الله:

1-لم تلق لغة إنسانية قط اهتماماً ورعاية من أهلها كما لاقت اللغة العربية، فقد ترك سلف الأمة ثروة علمية لغوية كبيرة، تحفظ لهذه اللغة أصولها، وضوابطها، ومعانيها، مما يوجب بالضرورة على الأجيال العربية المسلمة المتلاحقة رعاية هذه الثروة العلمية، والمحافظة عليها، والعمل على فهمها ونشرها، عبر المؤسسات التعليمية  المتخصصة التي تتبنَّاها لغة لكل جوانب الحياة المعاصرة.

2-تعتبر اللغة العربية لغة العبادة، والتراث، والحضارة، والثقافة، وهذا يعنى أنـها من الدين، قد ارتبطت به روحاً ومعنى، وهذا يوجب على الأمة الإسلامية رعايتها، واتخاذ كل ما  من شأنه حفظها عند أهلها الناطقين بـها، ونشرها بين الشعوب الإسلامية من غير الناطقين بـها، باعتبارها أداة التواصل الثقافي، والترابط الروحي بين المسلمين.

3-اللغة خاصية إنسانية من الدرجة الأولى قد امتزجت بفطرة الإنسان، وهي وسيلته الوحيدة للانصباغ بالصبغة الاجتماعية، والاتصاف بالصفة الإنسانية، فبقدر زيادة توغله في الحياة الاجتماعية يزداد بالتالي دور اللغة أهمية في حياته الاجتماعية وتفكيره وسلوكه، ومن هنا لا بد من إعطاء اللغة العربية – عبر المؤسسات التربوية المختلفة– مداها الكافي الذي يسمح بمثل هذا الامتزاج الجماعي، والانصباغ الاجتماعي في الحياة الإسلامية.

4-تتعرض اللغة الأصلية إلى تأثيرات سلبية حين تزاحمها لغة جديدة، لاسيما في المراحل التعليمية الأولى، بحيث تؤثر كل منهما في الأخرى بصورة سلبية، مما يوجب التوصية بضرورة الاكتفاء في المرحلة الابتدائية بلغة واحدة، حتى تتم مراحل بنائها عند النشء، وتتمكن لديهم الثقافة التي تحملها بدرجة كافية.

5-تدخل اللغة بطبيعتها الفطرية إلى عمق الكيان الإنساني، فتمتزج بتفكير الإنسان، ومدركاته العقلية، وذكائه، وتدخل في أصل بناء الفكرة العقلية في ذهنه، إلى درجة أن اللغة بطبيعتها النافذة لتبلغ من الإنسان أعمق ما فيه، وتقتسم معه شطر كيانه الإنساني، ومن هنا يظهر خطر اللغة الدخيلة حين تأتي محملة بثقافة أهلها وتراثهم، فتختلط بكيان الإنسان على هذا النحو، وتبلغ منه هذا المبلغ العظيم، لهذا كان لزاماً على منهج التربية الحذر من بلوغ اللغة الدخيلة هذا المبلغ العميق من كيان المتعلم المسلم، لما في ذلك من تهديد لمناهج التفكير الإسلامية، وزعزعة للثوابت الإسلامية في نفسه.

6-يمكن للفرد حين يتعلم العلوم المختلفة بلغته القومية الخاصة أن يتفوق فيها كأحسن ما يكون، في حين لو تعلم هذه العلوم بلغة أخرى فإن قدراً من الإخفاق في تعلمها – مهما كان حريصاً – لا بد أن يصيبه، ولهذا تجدر التوصية هنا إلى أهمية نقل العلوم والمعارف الجديدة مترجمة إلى اللغة الأصلية، حتى يتمكن المتعلمون من بلوغ المدى المطلوب في تعلمها، والإفادة منها.

7-لا خلاف بين الباحثين في تفوق اللغة العربية، وقدراتها الفائقة في استيعاب العلوم الحديثة بأنواعها المختلفة، مع القدرة الكاملة على وصفها بكل دقَّة مع خاصية فريدة في سعة الاشتقاق للمعاني والكلمات الجديدة، وهذا التفوق للغة العربية يوجب على الأمة عموماً وعلى المسؤولين والمتخصصين بصفةٍ خاصة التمكين لـها في نقل العلوم والمعارف والتدريس بـها في جميع المؤسسات والمراحل التعليمية، والسعي الجاد في جهود التعريب والترجمة، أخذاً بتوصيات المؤتمرات والندوات الكثيرة التي أوصت بذلك.

8-لم تكن اللغة الدخيلة – عند أمة من الأمم في يومٍ من الأيام – شرطاً ضرورياً للتقدم والتحضر، والتخلص من التخلف والتبعية، بقدر ما كان العزم والاعتماد على الذات، والانطلاق من اللغة القومية هي المقومات الحقيقية في بناء الأمم، وازدهارها، ونهضتها. وهذا الواقع التاريخي يوجب على الأمة المسلمة ضرورة الاستعانة بالله تعالى، ثم الاعتماد على الذات، واللغة العربية في بناء الحضارة الإسلامية المرتقبة، وذلك على نهج الأمة الأول حين انطلقت في نهضتها من ذاتها، ولغتها العربية، معتمدة على الله تعالى فما احتاجت إليه من علوم مدوَّنه بغير لغتها ترجمته إلى العربية، وطوَّعته لثقافتها وثوابتها.

9-لقد ثبت يقيناً أن تعلم لغة أخرى هو تعلم ثقافة أخرى؛ إذ لا يمكن أن تأتي اللغة– أيُّ لغة– مفرَّغة من أصولها الثقافية والفكرية التي تنتمي إليها, وبيئتها التي نشأت فيها, فلا يمكن لتجربة المتعلم أن تسلم من الاحتكاك بالثقافة الدخيلة, ولا يمكن بالتالي ضمان سلامته من تأثيراتها السلبية على ثقافته الأصلية, ومناهج تفكيره, ومبادئه التي تربى عليها. وهذا الوضع يتطلب – بالضرورة – تأخير تعليم اللغة الأجنبية إلى مراحل تعليمية أعلى يكون فيها الناشئ أكثر نضجاً ورسوخاً, كما أنه ليس من الضروري أن تفرض لغة أجنبية – مهما كانت مهمة– على جميع أفراد الأمة المسلمة – ذكوراً وإناثاً – لما في ذلك من ترسيخ الثقافة الأجنبية, وإيقاع الأهمية للغة الأجنبية في خلد المتعلمين, وإنما يترك ذلك حسب الرغبة, ويتأخر إلى مراحل أعلى؛ لإخراج متخصصين في اللغات الحية لنقل العلوم والمعارف من خلال الترجمة وأنشطة التعريب, وليس ليكونوا نسخاً مكرورة للثقافة الدخيلة.

10-الشريعة الإسلامية لا تستحب تعلم اللغات الأجنبية, لاسيما لمن يتحدث العربية, وإنما تجيز ذلك ضمن حد الحاجة, التي لابد أن تقدر بقدرها, ولا يتجاوز بـها الحد المطلوب, الذي تندفع به الحاجة, إلى درجة الولع باللغات الأجنبية لغير مصلحة شرعية, فلابد من إعادة النظر في مبدأ تعلم اللغات الأجنبية لطلاب المدارس, ولا سيما في المراحل التعليمية الأولى؛ للوقوف على مدى الخدمة والمصلحة التي تحققت والتي يمكن تحقيقها من وراء هذا القرار, فإن الواقع يشهد بأن الأمة لا تزال تعاني تخلُّفاً حضارياً عاماً, رغم أنها قضت في تعليم أبنائها اللغات الأجنبية سنوات طويلة سابقة, ومع هذا لم تتمكن الأمة من نقل العلوم التقنية, والمعارف العلمية إلى البلدان الإسلامية, مع دراسة أوضاع الأمم الأخرى, مثل اليابان وكوريا, ودراسة أساليب نهضتها الحضارية الحديثة, ومدى علاقة اللغات الأجنبية الحية في تقدمها ونهضتها.

11- إن العلاقة في غاية القوة بين اندثار لغة أمة من الأمم وبين اندثار وضياع ثقافتها وحقيقتها وذاتها, حين فقدت سبب وحدتها, ووعاء ثقافتها, وخزينة تراثها,ومن هنا كان لزاماً على الأمة المسلمة المحافظة على تراثها وهويتها الثقافية المودعة في لغتها العربية, فتعمل على نشرها, والتمكين لـها, والدفاع عنها ضدَّ الهجمات الشديدة من أعدائها, لاسيما في عصر العولمة، والانفتاح الواسع على الآخر، بحيث تكون لغة للعلم والمعرفة في بلاد المسلمين ولاسيما العربية منها, ووسيلتهم جميعاً للتخاطب والتفاهم.