الصفحة الرئيسة @ المقالات التربوية @ التربية الإيمانية @ 46ـ فهم عقيدة القضاء والقدر من الناحية العقلية


معلومات
تاريخ الإضافة: 24/8/1427
عدد القراء: 1843
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

لا تكمن مشكلة الإيمان بالقضاء والقدر عند الشباب في مبدأ التسليم باللوح المحفوظ، وسبق الكتابة، وعلم الله تعالى بكل شيء؛ بل تكمن في معرفة مدى سيطرة هذا العلم الإلهي السابق على سلوك الإنسان، وحريته في الاختيار، بمعنى: هل الإنسان مسيَّر، أو مخيَّر؟.

وهذه المشكلة لو فُهمت على وجهها الصحيح، وحصلت القناعة بها: فإنها تُعد أفضل وسيلة لتقوية الإيمان بالقضاء والقدر في النفوس المضطربة.

إن الأصل في خلق الإنسان: الابتلاء، فحياته لا تعدو أن تكون سلسلة من التجارب الابتلائية، تشمل المعتقدات والسلوكيات، وجعل الله للإنسان حرية تناسبه ضمن دائرة صغيرة يملك من خلالها رفض الحق، والقبول بالباطل، أما الدوائر الكبرى في نظام الله العام، والتي عليها غير المكلفين من خلق الله تعالى، فإن الإنسان خاضع مسلِّم لله فيها بالقهر والجبروت، لا يملك الخروج عنها.

ومثال ذلك: القطار، فإنه يسير بحرية وانطلاقة قوية، إلا أنه لا يخرج عن مساره ضمن القضبان الحديدية الموضوعة له، وكذلك العصفور في قفصه، فهو حرٌّ في انطلاقته ضمن حدود القفص، أما خارجه فلا حرية له فيه؛ بمعنى أن للإنسان حرية ومشيئة، ضمن ملك الله تعالى ومشيئته القاهرة، كما قال I : {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ …} [الإنسان:30].

ومن الأدلة المنطقية التي تدل على حرية المكلفين في اختيار سلوكهم ما أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية ~ٍٍِِ بقوله: "إن القدر نؤمن به ولا نحتجُّ به… ولو كان الاحتجاج مقبولاً لقُبل من إبليس وغيره من العصاة، ولو كان القدر حجَّة للعباد لم يُعذب أحد من الخلق لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولو كان القدر حجَّة لم تُقطع يد سارق، ولا قُتل قاتل، ولا أقيم حدٌ على ذي جريمة، ولا جُوهد في سبيل الله، ولا أمر بالمعروف، ولا نُهي عن المنكر"، بمعنى أن هذا كله يصبح من الباطل الذي لا نفع فيه، وأن عذاب الله تعالى للعصاة ظلم بغير حق -تعالى الله عن ذلك- ؛ إذ إنهم مسيَّرون إلى أعمالهم، بغير قصد ولا نية منهم وهذا التصور أيضاً يستلزم أن بعث الرسل، وإنزال الكتب كل ذلك عبث لا نفع فيه، وهذا كله في الحقيقة يخالف العقل الصريح.

وقد يظهر للبعض استنكار تقدير الله تعالى للمعاصي والمنكرات، بمعنى تنزيه الله تعالى عن تقدير الشر، وهذه الشبهة يردها العقل من جهة أنه لو جرى في ملك الله تعالى شيء مما لا يريد وقوعه، فوقع رغماً عنه -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- لكان هذا دليل العجز وعدم كمال القدرة، فإن من كمال القدرة والسلطان: أن يُقدِّر ذلك كله -الخير والشر- فلا يحصل في سلطانه إلا ما أراد، فإن وقوع المعاصي يتم بإرادة الله تعالى، وتمكين العصاة منها بقدرته النافذة، إلا أنه مع ذلك لا يحبها، ولا يرضاها لهم، وينهى عنها، ويعاقب عليها، فقدرة الإنسان على التنفيذ للأعمال -خيرها وشرها- لا تحصل إلا بمدد الله تعالى وتقديره، وهو سبحانه الذي يخلق الأعمال التي يريدها العبد، ويمدُّه بالقدرة عليها، ضمن نظامه التسخيري العام الذي أجراه في الكون.

ومن الأمثلة المنطقية على ذلك ما يحصل أحياناً من حمل المرأة بالزنا، فمن المعلوم أن الزنا مبغوض لله تعالى،ومحرمٌ في شرائعه كلها، فإذا كان الله لم يشأ للمرأة أن تزني، ولم يشأ لها أن تحمل من الزنا، ولم يقدر ذلك ولم يُيَسِّرْه، فمن هذا الذي خلق الجنين في بطنها؟ إنه ليس إلا الله تعالى، وكذلك القاتل يقتلُ الرجلَ، فمن قال إنه قُتل لغير أجله فقد كفر، وكذلك سرقة السارق ونحوها من الأعمال كلها تتم ضمن قضاء الله وقدره السابق، لا يخرج شيء عن ذلك أبداً.