الصفحة الرئيسة @ المقالات التربوية @ التربية الأسرية للفتاة @ 2ـ حاجة الفتاة إلى القدوة الأسرية الصالحة
تُعد التربية بالقدوة من أرقى وأعظم وسائل التربية؛ لأنها تحقق للمتربين إشباع خلَّة التقليد والمحاكاة الفطرية في نفوسهم، حيث يشعرون بكمال آبائهم، ومن يقومون عليهم بالتربية قيقلدونهم ويتشبَّهون بهم، إلى جانب أنها وسيلة لدفع المتربين نحو الفضائل والمحاسن من خلال تمثُّلها في القدوة، فما أن يجد الشباب المثل الأعلى في أحد المربين: إلا أحبُّوه حباً عظيماً، فينتقل من خلال التقليد، بدافع هذا الحب: سلوك القدوة إليهم.
ومن هنا تظهر أهمية التزام المربين بالسلوك الصحيح الموافق للحق، وإلا كانوا موقع قدوة سيئة للمتربين، يقول الله تعالى واعظاً المؤمنين، ومنبهاً إياهم على هذه القضية الخطيرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:2-3]، فجعل I مخالفة الأقوال الحسنة بالأفعال السيئة من أسباب مقته، وحصول غضبه، فقد توعَّد هذا الصنف من الناس بأشد أنواع العذاب والخزي يوم القيامة؛ لما في هذا السلوك المتناقض من تأثير سيء على المتربين، وعموم المتلقِّين.
وقد أثبتت التجارب أن النشء يتأثرون في أحكامهم الأخلاقية بالكبار أكثر مما يتأثرون في هذا الجانب بأقرانهم الصغار؛ لذا فإن القدوة الطيبة يمكن أن تقوم بدور كبير جداً في التربية، فقد لا يحتاج المربون إلى كبير جهد في العملية التربوية إذا أوجدوا القدوة الصالحة، فإن قمة العطاء التربوي يمكن أن تتحقق بجهد يسير، وفي الجانب الآخر فإن الجهد التربوي مهما كان حجمه كبيراً فإنه لن ُيحقِّق شيئاً من خلال المواعظ والنصائح دون القدوة الصالحة في سلوك المربين، ومن المعلوم أنَّ "فاقد الشيء لا يعطيه، فمن لم يكن صاحب خلق لا يمكن أن يربي غيره تربية أخلاقية، ولو عرف كل أساليب وطرق ووسائل التربية الأخلاقية"؛ فالشَّعائر التعبدية - مثلاً - إذا لم يكن لها تأثيرها الإيجابي على سمت المربين المتعبدين، فإن الشباب يعتبرونها مضيعة للوقت، وكذلك المبادئ الأخلاقية والقيم الاجتماعية، إذا لم يجدوا مظاهرها متمثلة في سلوك الكبار: فإنهم يكونون من أكفر الناس بها، وأكثرهم لها نقداً، وربما ظهر على سلوكهم التناقض والتردد بين مظاهر السعادة والتعاسة، فيعكسون بهذا السلوك المضطرب واقع المجتمع المتناقض من حولهم.
وقد أدرك أحد السلف هذا المعنى الخطير في طبيعة المتربين فقال لمربي أولاده واعظاً له، وملفتاً لمداركه نحو أهمية القدوة وتأثيرها المزدوج: "ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك، فإن عيونهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما صنعت، والقبيح عندهم ما تركت"، ودخل أحدهم مع أولاده على الإمام أبي إسحاق إبراهيم الحربي، فسأله إبراهيم: هؤلاء أولادك؟ فقال الرجل نعم، قال إبراهيم: "احذر أن يروك حيث نهاك الله فتسقط من أعينهم".
إن على المربين أن يدركوا أن التربية الخلقية قبل كل شيء "تبنى على أساس الخبرة العملية؛ لأن القيم تتوقف على الموقف" أكثر بكثير من توقفها على المعرفة، فلا يكفي فيها الوعظ والإرشاد، ونقل الصور والمعلومات، فالتربية لم تكن قطُّ "نقل مجموعة من الحركات، وإنما هي نقل منظومة من الأفكار، والعواطف: لصناعة الكائن صناعة اجتماعية، وإدخاله المجتمع من الوجهة الصناعية الفنية، والوجهة الروحية في آن واحد"، وهذا لا يتم بكماله المطلوب بمجرد إيصال المعلومات - مهما كانت صحيحة- دون سلوك عملي واقعي في قوالب من المواقف التربوية المختلفة والمتكررة، التي يعيشها المتربي مع من يقوم بتربيته.
وانطلاقاً من هذه المفاهيم الأساسية لدور القدوة وأهميتها، فإن الفتاة أحوج ما تكون للقدوة الصالحة في الوالدين والأقارب والمعلمات، حيث يقلُّ احتكاكها بباقي أفراد المجتمع لعدم البروز، فتقل بالتالي فرص التأثر بالقدوة لتقتصر على المحارم من الرجال، وبعض النساء، في حين يجد الشباب من الذكور فرصاً أكبر للقدوة في الحياة الاجتماعية من العلماء، والأشخاص، والزملاء أكثر بكثير مما تجده الفتيات، ومن هنا فإنهن أحوج إلى تأثير المربين في الأسرة من: الوالدين، والمحارم، والصالحات من الوسط النسائي لتحقيق مبدأ إشباع الحاجة إلى القدوة، وحصول التأثر السلوكي الضروري لامتثال القيم والأخلاق الإسلامية في سلوكهن.
وعلى الفتاة أن تعلم: أن فقدان القدوة، أو ضعفها في الأسرة ومجتمع اليوم - على صعوبته - لا يُعدُّ ذريعة كافية لتنكُّب المسلك الخلقي القويم، فإن تقصير المربين في واجباتهم الخلقية لا يعفي المتربين المكلفين من الامتثال الخلقي، بعد استيعابهم الخطاب التكليفي المتمثل في الوحيين: الكتاب والسنة.