الصفحة الرئيسة @ المقالات التربوية @ التربية العقلية للطفل @ 12ـ الإفادة من قدرة الطفل على الحفظ
يمتاز الولد في مرحلة الطفولة بقدرة فائقة على الحفظ والتذكر لصفاء ذهنه وسرعة نمو ذكائه، فالتعليم في وقت الطفولة يكون أسرع، وأكثر رسوخاً من أي وقت آخر من عمر الطفل، يقول ابن خلدون -رحمه الله-: "التعليم في الصغر أشد رسوخاً، وهو أصل لما بعده". فاستغلال هذه الملكة في تعليم الولد أصول الدين، وأساساته يعد غاية وهدفاً هاماً في مجال التربية الفكرية للولد.
وأهم شيء يتعلمه الولد في هذه الفترة هو حفظ القرآن الكريم، أو بعضه، فإن فضله عظيم، ولا يقتصر على المتعلم فحسب؛ بل إن الأب الساعي في تعليم ولده القرآن له من الأجر العظيم عند الله تعالى ما وصفه رسول الله r إذ قال: (من قرأ القرآن وتعلمه وعمل به أُلبس يوم القيامة تاجاً من نور ضوؤه مثل ضوء الشمس، ويكسى والديه حُلتان لا يقوم بهما الدنيا، فيقولان بما كُسينا هذا؟ فيقال: بأخذ ولدكما القرآن).
فهذا الحديث وأشباهه من أعظم الأحاديث تشجيعاً للأب على المسارعة في إشغال الولد بحفظ كتاب الله عز وجل، وقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام التوجيه المباشر في ذلك فقال:( أدبوا أولادكم على ثلاث خصال: حب نبيكم، وحب أهل بيته، وقراءة القرآن، فإن حملة القرآن في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله مع أنبيائه وأصفيائه), وهذا فضل عظيم لا تقوم له الدنيا ثمناً. والأب المسلم يسارع في مرضاة الله عز وجل وطاعة رسوله r بامتثال أمره في المجاهدة لتحميل الولد كتاب الله في صدره.
ويبدأ مع الولد في الحفظ عن طريق إشراكه مع جمعيات تحفيظ القرآن المنتشرة في المساجد، فيسجله عند أحد الأساتذة الجيدين حفظاً، والمعروفين بالصلاح والاستقامة، فإن استقامة الأستاذ من أعظم أسباب صلاح التلاميذ واستقامتهم. وإذا لم يكن هناك جمعيات لتحفيظ القرآن اتفق الأب مع بعض جيرانه وإمام المسجد المجاور لهم على تكوين جمعية صغيرة لتحفيظ القرآن الكريم، يشرف عليها إمام المسجد أو أحد الآباء المتمكنين والمتقنين للقرآن. فإن لم يحصل ذلك استأجروا من يرونه من الأساتذة لهذه المهمة.
وزمن الحفظ يبدأ من سن الخمس سنوات وحتى الخامسة عشرة قبل البلوغ، فإذا بلغ الصبي تشتت همته؛ لهذا كان الاهتمام بحفظ القرآن قبل البلوغ أدعى لثباته ورسوخه في قلب الولد، ويرى بعض السلف - رحمهم الله- أن تعلم القرآن يمكن أن يبدأ دون سن الثالثة من العمر. والصحيح أن القضية تعود إلى الأب ففي أي وقت وجد من ولده إقبالاً، ونجابة، وقدرة على الحفظ، والتعلم، كان ذلك السن هو أنسب الأوقات لبدء التعلم والحفظ.
وفي أول الأمر ينبه الأب معلم ولده أن لا يكثر عليه في الحفظ، بل يلين معه، ويبدأ بالسور السهلة القصيرة، ويشجعه على حفظها ليكون ذلك مدعاة لاستمراره، وحثاً له على الحفظ، ولا يغفل الأب عن مكافأته والثناء عليه من وقت لآخر، فإن لهذا الثناء والمكافآت التشجيعية دوراً هاماً في الرفع من معنويات الولد وإعطائه الثقة في نفسه.
ويحاول الأب تجنيب الولد أنواع الانفعالات والتوترات العصبية التي تعيق التعلم، فإن "الانفعالات الشديدة تؤثر تأثيراً بالغ الضرر على مختلف الوظائف والعمليات العقلية للفرد كالإدراك والتذكر والتفكير". ويرى الزرنوجي -رحمه الله- أن أسباب النسيان ترجع إلى: "المعاصي، وكثرة الذنوب والهموم، والأحزان في أمور الدنيا، وكثرة الأشغال والعلائق".
فكما أن الأب يجنب الولد الانفعالات النفسية المختلفة، كذلك يجنبه المعاصي بأنواعها، كاللهو المحرم، وفاحش القول، وإهمال الصلاة -خاصة بعد العاشرة- وغير ذلك من أسباب غضب الله عز وجل، فإن "المعاصي تُفسد العقل، فإن للعقل نوراً والمعصية تطفئ نور العقل ولا بد، وإذا طفئ ضعف ونقص"، فتقوى الله وخشيته من أعظم الأسباب المساعدة على الحفظ.
ويضاف إلى حفظ القرآن الكريم، حفظ بعض أحاديث المصطفى r من كتب الصحاح، كصحيح البخاري، وصحيح مسلم، وغيرهما من كتب السنن، ويشجع الولد على ذلك بالهدايا، والنقود والثناء الحسن. ويختار الأب من هذه الأحاديث أقصرها عبارة، وأسهلها معنى، وأنفعها لمرحلة الطفولة، كأحاديث حب الله عز وجل، وحب رسوله r، وأحاديث الآداب والأخلاق.
ويهتم الأب بتزويد ولده ببعض الأبيات الشعرية والقصائد القصيرة المختارة من الشعر العربي الأصيل، المعتمد على أصول اللغة ومعانيها، مركزاً على الأبيات المتضمنة معاني وأصول الآداب الإسلامية، وبث روح الحماس في النفس نحو الدين والولاء لله ورسوله والمؤمنين، متجنباً شعر "الحداثة" المبتدع الهدام. فيختار من ديوان الشافعي -رحمه الله-، أو شعر مصطفى صادق الرافعي، أو يوسف القرضاوي، أو بعض قصائد أحمد شوقي، أو غيرهم.
ولا بأس بحفظ بعض الأناشيد الإسلامية الهادفة المروحة عن النفس مثل: "طلع البدر علينا" أو نحو ذلك، ويمكن للأب الاستفادة من كتاب "الفريد في انتقاء الأناشيد" الذي أصدرته جمعية الإصلاح بالكويت، وكتاب "أناشيد فتية الحق"، وغيرهما من الكتب المؤلفة في هذا المجال.
ويمكن أن يضاف إلى ذلك حفظ الأمثال الهادفة، ذات المعاني الصحيحة فإن لها فوائد كثيرة، ولهذا فقد اشتمل القرآن الكريم والسنة المطهرة على أمثال كثيرة تقرب المعاني وتعمق الفهم. وقد ورد في القرآن نحو ثلاثة وأربعين مثلاً.
ومن الأمثال قول القائل: "ما تزرع تحصد"، "احذر شر من أحسنت إليه"، "من جهل شيئاً عاداه". ويشرح الأب معنى المثل للولد ليعرف كيف يستعمله ويستشهد به في المواقف المختلفة.
ولا بأس بحفظ الولد لبعض عبارات السلف الصالح المتضمنة التوجيه نحو أدب معين، أو الوعظ، أو نحو ذلك مثل مواعظ ابن مسعود t حيث يقول: "من أعطى خيراً فالله أعطاه، ومن وقي شراً فالله وقاه"، وقوله: "من تطاول تعظماً حطه الله، ومن تواضع تخشعاً رفعه الله"، وقوله t أيضاً: "ما على وجه الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان"، ونحو هذه من العبارات الصادقة المؤثرة، القصيرة التي يسهل على الولد حفظها، ويمكن الاستفادة من كتاب ابن القيم "الفوائد" فقد حوى كثيراً من هذه الجمل المفيدة، والمواعظ الجامعة، ويمكن أيضاً الاستفادة من كتاب "المجموع المنتخب من المواعظ والأدب" لزامل الصالح الزامل، فقد جمع فيه مؤلفه كثيراً من المواعظ، والأبيات الشعرية الهادفة. كما يمكن الاستفادة من كتاب "أيها الولد" لأبي حامد الغزالي -رحمه الله-، وكتاب "لفتة الكبد في نصيحة الولد" لابن الجوزي، فهما كتابان مفيدان احتويا على توجيهات كثيرة مباشرة للولد.