الصفحة الرئيسة @ المقالات التربوية @ التربية الأسرية للطفل @ 3ـ السلوك العملي وأثره في تنشئة الطفل المسلم


معلومات
تاريخ الإضافة: 18/8/1427
عدد القراء: 4387
خدمات
نسخة للطباعة     إرسال لصديق

3 - السلوك العملي وأثره في تنشئة الطفل المسلم

إن للكلمة الموزونة، المعبرة صداها في النفس البشرية، فطالما تأثرت النفوس بكلمات الوعَّاظ والناصحين، وتغيَّر حال كثير من الناس بالكلمة الصادقة، والموعظة المؤثرة، وكم من عينٍ ذرفت وتابت واستقامت، وأعرضت عن مسلك الهالكين، ونهجت نهج الصالحين بمجرَّد موعظةٍ بليغةٍ وقعت موقعها من القلب. وهذا كلُّه حق، ولكن في الجانب الآخر كم من كلمةٍ رُوعيت فيها قواعد اللغة، وأساليبُ البلاغة، وعذوبة المنطق، وزُيِّنت ببعض آيات القرآن الكريم، وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام فكانت سبباً في صدِّ كثير من الناس عن الهداية والرشاد.

أليست الآيات هي الآيات، والأحاديثُ هي الأحاديث المستعملة في كلا الموقفين، كما أنَّ الكلمات هي الكلمات، والجمل هي الجمل المستعملة.

إنَّ الفرقَ بينهما يكمنُ في واقع المتكلِّم، وفي سلوكِهِ العملي، الذي يُعتبر أعظمَ دليلٍ على صدقِ دعواه، وأبلغ برهانٍ يحمل المقتدين على الإذعان له، والتسليم لمبادئه.

إن مجرد التعبير عن الحق والفضيلة، دون أن يسانده واقعٌ عملي، وممارسةٌ حيةٌ مُشاهدة، لا يؤثر في النشء، ولا يغيِّر من حالهم مهما كانت العباراتُ والكلماتُ متناسقة وموزونة، حتى يكون لها من واقعِ المربينَ الدليلُ والبرهان.

وإن المتأملَ في أسباب انحراف كثير من الشباب، وضياعهم، ووقوعِهم في مهاوي الرذائل والفواحش، وتعاطي المخدرات، والخمور. يجدُ أن أعظم هذه الأسباب، وأخطرها فقدانُ القدوةِ الصالحةِ في الآباء والمربين.

إن التربية بالقدوةِ تُعدُّ من أ هم وسائل التربية، بل هي أهمُ وسائلها على الإطلاق، وذلك لوجود تلك الغريزة الملحةِ في كيان الإنسان، تدفعه نحو التقليد والمحاكاة.

والأولاد الصغارُ أشدُ تأثراً بالقدوة من الكبار، فهم يجدون في آبائهمُ المثلَ الأعلى، والنبراس الذي يهتدون به، فالأطفال الصغار يعتقدون أن كلَّ ما يفعلُهُ الكبار، ويمارسونه صحيحاً، فهم لا يدركون – في أول الأمر – الصواب من الخطأ، ولا يميزون بين الخير والشر، إنما هم ينظرون بأعين آبائهم، ويحاكونَ طريقَتَهُم في الحياة ؛ ولهذا تجدُ ي الغالب أن الأولادَ الذين لا يصلون: تربوا في بيوتٍ لا تقامُ فيها الصلاة، وكذلك الأولادَ الذين يدخنون، لابد أنهم يقتدون بالمدخنين في البيوت، وهكذا تجدُ أن النشءَ ثمارَ تلك البيوت ، وكما قال تعالى : {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} [الأعراف:58].

إن الخطرَ على النشءِ من فقدان القدوة في البيتِ لا يكمنُ في كونهم ينشأوونَ متلبسينَ ببعضِ الانحرافات الأخلاقية، إنما الخطرُ يحصل إذا كبُرَ هؤلاء الصغار، وعقلوا حقائق الأمور، وعلموا واقع المربين، وأن ما كانوا يسمعونه من عبارات الفضيلة والنصائح، والأمر بحسنِ الخلقِ والبر إنما هي عباراتٌ جوفاء، لا واقع لها ولا تطبيق، فإن هذا الصنفَ من الأطفال – في العادة ينحرفُ انحرافاً شديداً، ويرفضُ المجتمع وتقاليدَهُ وعاداتهِ، وما فيه من خير وشر، ويحاول أن يبحثَ في مجتمعاتِ أخرى  عن قدواتٍ، ورموزٍ يقتدي بها في حياته الجديدة.

وقد ثبت أن الأطفال الذين ينشأوون في أسرٍ متناقضةِ القيمِ والأخلاقِ، وتظهر فيها علامات النفاق، ومخالفةُ الأقوالِ والأعمال، يُصبحون – إذا كبروا – من أكثر الناس بعداً عن الالتزام بالآداب والأخلاق الإسلامية، وذلك لعمق الأثر الذي خلَّفه ذلك التناقضُ السلوكي في نفوسهم.

وإن الناظرَ في أوضاع المجتمعات الإسلامية اليوم، يجد ا ن عقيدتنا، وأخلاقنا، وقيمنا تكاد تكون في ناحية، وحياتنا العلمية الواقعيةَ في ناحية أخرى، نقيضانِ لا يلتقيان، فكيف ينشأ مع هذا الوضع أطفالٌ صالحون يرون، ويشاهدون المتناقضات في حياة الأمة، إنهم مهما سمعوا من المربين، من عباراتِ الخير والفضيلةِ، والأخلاق الحميدة، فإنهم لن يحملوا في داخل نفوسهم سوى الصورة التي يرونها أمامهم، من أنواع وأنماط السلوك،  إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشر.

وقد أدرك السلف رضوان الله عليهم هذه المعاني الخطيرة، فهذا عمرو بن عتبة، ينصحُ معلمَ ولدهِ فيقولُ له: ((ليكن أول إصلاحِكَ لولدي إصلاحَكَ لنفسك، فإن عيونهم معقودةٌ بعينك، فالحسنُ عندهم ما صنعت، والقبيحُ عندهم ما تركت))، فهم لا يتأثرون بالنصوص بقدر ما يتأثرون بالسلوك العلمي الواقعي.

كثيراً ما يعتذر الآباء بالفساد الاجتماعي، ويحمِّلُونَ المجتمع فساد أولادهم متخلِّين بذلك عن دورهم وواجبهمُ التربوي، فهم قد جلبوا الطعام والشراب، واللباس، وظنُّوا أن مهمَتَهُم تنتهي إلى هذا الحد.

نعم إن للمجتمع ومؤسساته المختلفة دوراً في التوجيه والتأثير ولاشك في هذا، ولكن ليعلمَ الآباء ويوقنوا: أن أثر البيتِ الصالح أبلغُ وأقوى من كل أثر ؛ فإن ما ينقُشه الآباء في نفوس أولادهم من معاني الخير والفضيلة، بالعباراتِ الصادقة الحارة، والسلوك القويم، مع القدوةِ الصالحة، له أثرهُ القوى الذي يبقى مع الولد حتى وإن ظهرَ على الولدِ بعضُ انحرافٍ في أول الأمر بسبب ضغط المجتمع، فإنه غالباً ما يرجعُ إلى الخير، وتكون عاقبتهُ إلى الصلاح، فما كان الله ليضيع جهدَ الأبِ الصادق، الذي جاهد في سبيل إصلاح ولده واستقامته ولو افترضنا ضياع الولد وانحرافه، مع بذلَهُ الأبُ في سبيل إصلاحه، فإنه لا لوم على الأب، وقد أخذ بالأسباب، فإن لله في ذلك حكمة هو أعلم بها، وللأب الأجرُ والمثوبةُ على صلاح نيتهِ، وبذلِ جهده.

إن فقدان النشء للقدوة الصالحة في المجتمع يُعد من أعظمِ المصائب التي يجنيها الجيل الجديد، وإن تناقض الأقوال مع الأعمال، في واقع الحياة، وبُعْد المربين عن سلوك النهج الذي رسمه رسول الله r للمربي المسلم – كل هذا – يضعُ الأطفال في حالةٍ من الحيرة والتردد، منه لا يستطيعون أن يوفِّقوا بين هذه المتناقضات، فيسمعون من آبائهم كلاماً حسناً عن وجوب التقيُّد بالآداب والأخلاق الإسلامية، والبعد عن الخيانة والأمر بالأمانة , ثم يشاهدوا آباءهم وهم يمارسون في حياتهم العملة عكس ما يقولون , وعكس ما يأمرون به أولادهم.

ومن المعلوم أن الطفل في سن التمييز يمكن أن يحدد مدى التزام أهله بالتوجيهات التي يأمرونه بها , وإلى أي حد يتقيد أهله بالآداب والأخلاق التي ينادون بها , فلا يظن الأب أن الطفل  لا يعقل ما يدور حوله , فإنه يتأثر بالقدوة العملية أكثر بكثير مما نظن.

إن كلامنا هما كان جميلاً وحسناً ومتناسقاً، فإنه لن يؤثر في أولادنا، مهما كررناه عليهم، حتى يمتزج بأرواحنا، ويكون مطلقاً حياً في واقعنا العملين، وهنا فقط يؤمن به الأولاد، ويقتدون بنا.

فكيف يسوغ للأب المسلم أن يأمر أولاده بالعفاف والأدب، وبناتَهُ بالحشمة والحياء، ثم يزجُّ بهم في مجتمعات تفشت فيها الرذيلةُ والفواحش، بحجة قضاءِ إجازة الصيف، ثم يسمح للجميع بأن يفعلوا ما شاؤوا، فالأولاد ينطلقون هنا وهناك بلا رقيب، والبناتُ ينزعن الحجاب وجلباب الحياء.

وكيف يسوغ للمسلم أن يأمر أولاده بالتقوى، ومراقبة الله عز وجل في السر والعلن في حين يخادعُ، ويغشُ، ويؤذي المسلمين بلسانه ويده.

وكيف يسوغ للمسلم أن يأمر أولاده بالتقوى وغض البصر عن المحرمات، والبعدِ عن المنكرات في حين يُطلقُ بصره وسمعه للملاهي والمنكرات بحجة الترفيه البرئ.

وكيف يسوغ له أن يأمر أولاده بالمحافظة على الصلاة، وإتقانها في حين يهجرُ المساجدَ، ولا يؤدي الصلاة في أوقاتها المعلومة.

إن هذه التناقضات التي تعيشها الأمة – في أغلب أحوالها- لا يمكن أن توجِد جيلاً متوافقَ النمو، سوىَّ الخلقَ، بل تُخرِّجُ كل مبادئ المجتمع خيرها وشرها، معرضاً عن منهجه وسبيله. فكم عانت الأمة، من بعض أبنائها العاقين، الذين كانوا ثمار هذه التناقضات الأخلاقية، فمنهم من ألحد وكفر، ومنهم من فسق وفجر، ومنهم من سلك سبيل المنافقين، فأخذوا جميعاً بيدٍ واحدةٍ يضربون بمعولِ الهدم كيان الأمة، ويسوقونها نحو الهاوية.

ولقد حـذر الله عز وجـل عـباده من سـلوك هذا النـهج المنحـرف فقـال عز وجل: { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]، وقال أيضاً: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} [النساء:81]، وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2-3]. وقال رسول الله r: ((يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلقُ أقتابُ بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان مالك ؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟ فيقولُ: بلى، قد كنت آمُرُ بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكرِ وآتيه)). ويقول أيضاً: ((آية المنافق ثلاث: إذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب، وإذا أؤتمن خان)). وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: ((إن الكذب لا يصلحُ منه جدٌ ولا هزل، ولا أن يعد الرجل ابنه ثم لا ينجز له))، وقال: ((من قال لصبي تعالى هاك ثم لم يعطه فهي كذبة)).

إن الثمرة الصالحة الطيبة، لا يمكن أن تخرج من أرضٍ خبيثةٍ جدباء، كما أن الثمرة الخبيثة الفاسدة، لا يمكن أن تكون نتاجَ الأرض الطيبة، والعناية الكاملة.