- أيها الإخوة : لقد مرت على الحياة أجيال بشرية كثيرة ، تعاقبت على هذه الأرض، يخلفُ بعضهم بعضاً.
- فمنذ أن أهبط الله آدم وزوجه إلى الأرض والبشر يتناسلون ويتكاثرون، وتأتي الأجيال عَقِبَ الأجيال.
- ولقد تفاوتت هذه الأجيال المتعاقبة في الفضل والمكانة ، إلا أنه لم يأتِ جيلٌ، ولن يأتي جيلٌ أفضَلُ من الجيل الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين خصَّهم الله بالصحبة النبوية دون غيرهم، فهم في الجملة أفضلُ وأحسَنُ الأجيال.
- والناظر في شخصيات ذلك الجيل الفريد الذي تشرَّف بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم ، يجدهم كالنجوم في تألقهم وكمالهم.
- فلكل واحد منهم شخصيته المتميزةُ عن غيره، فهم يشتركون في صفات كثيرة، إلا أنه يتميز كلُّ واحد منهم بمميِّزات خاصة به.
- فأينما نظرت في شخصيات ذلك الجيل الفريد : تعجَّبت من تنوُّع تلك الشخصيات التي جمعها جميعاً الفضل والإحسان والتفوق.
- فهم بالفعل كالنجوم في السماء ، قد جمعها وصف الإضاءة والتألق والشموخ، مع تفاوت بينها في البروز وشدَّة الإضاءة.
- فمنهم العالم الحافظ ، ومنهم المجاهد البطل ، ومنهم التَّقيُّ الورع ، ومنهم العابد المتنسِّك، ومنهم المنفق المتصدق، ومنهم القائد الفذُّ.
- لقد جمعوا في جملتهم - رضي الله عنهم - الخير والفضل الذي توزَّع في الآخرين، فما من فضيلة إلا وقد وُجدت فيهم.
- وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول : «لا تسبوا أحداً من أصحابي ، فإن أحدَكم لو أنفق مثل أُحُدٍ ذهباً، ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه».
- وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً : « أصحابي أمنةٌ لأمتي ، فإذا ذهبت أصحابي أتى أمتي ما يوعدون ».
- أيها الإخوة : من بين العشرة المبشرين برضوان الله والجنة ، رجل من الأولين ، أسلم في السابعة عشرة من عمره.
- فكان حين أسلم ثلث الإسلام ، فعاتبته أمُّه على إسلامه عتاباً شديداً ، حتى امتنعت عن الطعام والشراب للضغط عليه، فثبت ولم يطاوعها.
- وقال لها : « والله لو كانت لك ألف نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني هذا لشيء »، فلمَّا يئست منه أكلت وشربت ، وعادت إلى حياتها الطبيعية.
- وأنزل الله فيه : " وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا "، وكان – رضي الله عنه - باراً بها.
- إنه أبو إسحاق سعد بن أبي وقاص القرشي الزهري المكي رضي الله عنه، شهد المواقع كلها مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكان من المرشحين للخلافة بعد عمر رضي الله عنه.
- وعلى الرغم من كمال شخصيته ، وتفوقه في جوانب كثيرة ، إلا أن الشخصية الجهادية القتالية ، والقيادة العسكرية قد غلبت عليه.
- فكان الرجلَ يوم أحد ، فقد نثر له رسول الله صلى الله عليه وسلم كِنانَته ، وكان يناولُهُ السهام، ويقول: « ارم فداك أبي وأمي ».
- وما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أباه وأمه لأحــد من أصحابه إلا لسعد رضي الله عنه ، فهي خاصة له ، يتميز بها على غيره من الصحابة.
- وكان رضي الله عنه لا يكاد يخطئ الرمي ، حتى إنه ليرمي بالسهم دون نصل ، فيصيب به العدو.
- وربما التقط بسهمه الرجل المحصَّن في دروعه وترسه ، فيُرْديه قتيلاً .
- وربما رمى بالسهم الواحد المرتين والثلاث ، كلما عاد إليه السهم التقطه ورمى به فيصيب.
- وقيل : إنه رمى يوم أحد بألف سهم ، وقد نال شرفَ أولِ من رمى وأراق دماً في سبيل الله تعالى.
- وكان بطل الإسلام ، وقائد الجيش الإسلامي المظفر يوم القادسية ، ويوم جَلولاء مع الفُرْسِ.
- وفتح الله على يديه مدائن كسرى ، وكان من أشدِّ وأقوى أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.
- ومع كلِّ هذا كان من ألطف الناس وأرحمهم بالمسلمين؛ فقد لوحظ ذلك حين تولى إمارة الكوفة بالعراق، بعد أن أسسها وبناها.
- كان يتلمَّس حاجات الناس والمساكين ، ويعطف على المحتاجين والأرامل ، ومع ذلك لم يخلص من ألسنة المبطلين.
- حتى إن بعضهم طعن في أمانته ، وعلمه ، وأخلاقه ، بل إن بعضهم اتهمه بأنه لا يحسنُ الصلاة.
- وهكذا أهل الباطل في كلِّ زمان يتلمَّسون للبرآء العنت، فكان لا يدعو على أحد من خصومه إلا أصابته الدعوة.
- فقد دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يكون مُجاب الدعوة فقال: « اللهم استجب لسعد إذا دعاك »، فكان بعدها مجاب الدعوة.
* * *
- أيها المسلمون : جلس الرسول صلى الله عليه وسلم مرة مع بعض أصحابه وقال : « يطلُعُ عليكم الآن رجل من أهل الجنة »، فطلع سعد رضي الله عنه.
- وخرج مرة سعد رضي الله عنه ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتهج لرؤيته وقال: « هذا خالي، فليُرني امرؤٌ خاله »، يفتخر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- شعر مرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحاجته إلى الحراسة حتى ينام ، فإذا بسعد رضي الله عنه على بابه، فقال: « من هَذَا ؟ قال : سعد بن أبي وقاص ، جئتك أحرسك».
- يقول سعد رضي الله عنه : « لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سابع سبعة ، ما لنا طعام إلا ورق السَّمُر ، حتى إن أحدنا ليضع كما تضع الشاة».
- بكى ولده عنـد وفاته فقــال : « ما يبكيــك ؟ قال : لمكانك وما أرى بك - يعني من كرب الموت- فقال: لا تبكِ، فإن الله لا يعذِّبُني أبداً، وإني من أهل الجنة ».