- أيها المسلمون : لقد فُطِر الإنسان على التعلُّق بالأرض ، والخلود إليها ، ولا سيما الأرض التي وُلد ونشأ وتربى فيها.
- فللإنسان ارتباط خاص بالموطن الذي عاش فيه ، يأنس بجوِّه ، ومائه، وشجره ، وترابه.
- وللإنسان في موطنه ارتباطاته الاجتماعية من : القرابات والأرحام والجيران والأصدقاء .
- إضافة إلى ما يربط الإنسان بموطنه من : الأموال والمساكن والمزارع والتجارات .
- فكل هذه الروابط تجذب الإنسان إلى موطنه ، وتربطه ببلاده ، وتحقق له حاجته إلى الشعور بالانتماء الاجتماعي.
- ولهذا يشتد على الإنسان ابتعاده عن وطنه ، ويصعب عليه انتزاعه من أرضه، أو ترحيله من موطنه الذي نشأ فيه.
- بل وحتى السفر الذي يقوم به الإنسان باختياره ؛ فإنه يشعر معه بألم الفراق، وقسوة الغربة حتى يعود إلى وطنه.
- ولهذا وصف الرسول صلى الله عليه وسلم السفر بأنه قطعة من العذاب، وأمر المسافر أن يبادر بالعودة إلى وطنه ولا يتأخر.
- وكان النَّبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى سفر لا يطيل البقاء، فإذا عاد إلى المدينة ورأى معالمها أسرع بدابته شوقاً إليها.
- أيها الإخوة : إن حبَّ الأوطان أمر فطري في النفس الإنسانية، يعرفه كلُّ من عاش فطرته الطبيعية .
- ولا يكره وطنه إلا الشاذ من الناس ، ممن تنكَّب الفطرة السوية ، ولم يعرف الحبُّ إلى قلبه سبيلاً.
- لقد هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة وهي أحب أرض الله إليهم ، ثم جاءوا بعد ذلك غازين لها ، ومحاربين للمعاندين من أهلها ، وهي مع ذلك من أحب البلاد إليهم.
- لقد كانت مكة بعد الهجرة وقبل الفتح دار كفر لا يجوز المقام فيها، فخرج المهاجرون منها طاعةً لله تعالى وهم يحبونها.
- فلم يقف حبُّ الوطن دون قيام الصحابة بالهجرة من مكة إلى المدينة، تنفيذاً لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
- فحب الوطن قضية فطرية لا ينفك عنها الإنسان، وتنفيذ أمر الله قضية لا بد منها طاعة لله تعالى.
- أيها المسلمون : إن الاستقرار في الأوطان ، والتمتع بخيرات البلاد من أعظم النعم التي تستحق الشكر لله.
- ولكم أن تتخيلوا المبعدين عن أوطانهم ، المطرودين عن بلادهم ، المشرَّدين عن ديارهم: كيف تكون أحوالهم؟
- إن من أشد ما يلقاه الإنسان : الحرمان من الوطن ، وانقطاع انتمائه إلى بلده الأصلي ، فلا يعرف له موطناً ينتمي إليه.
- ولقد عانى المسلمون في هذا العصر أشد ما عانته الشعوب الأخرى من: الطرد والتشريد والتهجير من الأوطان.
- فمنذ مائة عام وأعمال التهجير والطرد تمارس على فئات المسلمين في: روسيا والصين والهند وبورما وأوروبا الشرقية وأفريقيا.
- ولعل من أشدها ما يلقاه الفلسطينيون من مصادرة المزارع والدور ، والطرد من القرى والمدن.
- كم هو شديد على النفس أن يُنزع الرجل من بيته ومزرعته ويُلقى في الشارع في خيمة ، ثم يُؤتى بيهودي مشرَّد يزرع في بيته، ويملَّك مزرعته.
- إن بيع الأوطان صعب على أهل الذمم والشرف ، إنه يستهين بروحه تخرج ولا يُنزع من بيته وأرضه.
- إن أزمة الحرمان من الأوطان والتشرد في البلاد لا يعرفها على حقيقتها إلا من عاش آلامها ، وقاسى أحزانها.
- اللهم ألهمنا شكر نعمتك التي أنعمت علينا بها ، ولا تسلِّط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا ، يا أرحم الراحمين.
* * *
- أيها الإخوة : لما كانت الأوطان غاليةً على أهلها : وجب السعي في المحافظة عليها ورعايتها وتثبيت أركانها.
- ولا يشك مسلم أياً كانت ثقافته : أن صلاح الأوطان وسلامتها لا تتحقق إلا في طاعة الله تعالى ومرضاته.
- ومن ظنَّ أن سعادة الأوطان واستقرارها وازدهارها تتحقق في غير رضا الله فهو إما جاهل أو منافق.
- إن أعظم مظاهر سعادة البلاد في صلاح أهلها واستقامتهم واتفاقهم، وإن تعاسة البلاد في فساد أهلها وتفرقهم وتشرذمهم.
- إن الإنسان الصالح في نفسه المصلح لغيره هو أعظم ثروة للوطن ، أغلى من مناجم الذهب ، وآبار البترول ، ومنابع الماء.
- لقد ربط الله بين نعمه التي ينزلها على عباده وبين صلاح الناس واستقامتهم، فبقدر صلاحهم يفتح عليهم ويعطيهم.
- كما قال تعالى : " وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ".
- إن النقمةَ كلَّ النقمةِ في فساد الناس ، ومجاهرتهم بالفسق في شوارعهم وأنديتهم ووسائل إعلامهم.
- أيها الإخوة : إن المسلم الصالح هو المستقيم في نفسه ، الساعي في صلاح أهله وولده ، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
- يعطي الحقوق إلى أهلها ، ويحب الخير للناس ، وينصح لولاة أمره، يصدقهم ولا يكذبهم ، ويتلطَّف بهم ولا يداهنهم.
- هذا هو الإنسان والمواطن الصالح الذي تنعم البلاد به ، وتزدهر الحياة بأمثاله .