- أيها المسلمون : لقد خلق الله الإنسان اجتماعياً بطبعه، لا يستغني عن الناس، وتصعب عليه الوحدة والانفراد.
- وقلَّ أن يُوجَد في الناس من يطيق الوحدة والانعزال، ولاسيما في هذا الزمان ، الذي كثرت فيه حاجات الناس وتشابكت مصالحهم وتداخلت.
- جاء رجل إلى وهب بن منبِّه رحمه الله فقال: « إني قد حدَّثت نفسي أن لا أخالط الناس، فما ترى ؟ قال : لا تفعل؛ إنه لا بد للناس منك، ولا بد لك منهم، لك إليهم حوائج ، ولهم إليك حوائج».
- أيها الإخوة: وعلى الرغم من أهمية المخالطة للناس ؛ فإن فيها كثيراً من الآلام والأحزان، وتحتاج إلى مجاهدة وصبر ومداراة.
- يقول أبو الدرداء رضي الله عنه : «أدركت الناس ورقاً لا شوك فيه، فأصبحوا شوكاً لا ورق فيه، إن نقدتهم نقدوك، وإن تركتهم لا يتركوك، قالوا: كيف نصنع؟ قال: تُقْرِضهم من عرضك ليوم فقرك ».
- ويقول – أيضاً -: «ما من يوم أُصبح فيه لا يرميني الناس فيه بداهية، إلا عددتها لله عليَّ نعمة ».
- إن أقلَّ ما يتنازل عنه المسلم العاقل في مخالطته للناس: أن يغض الطرف عن الإساءة، ولا يدقِّق في معاملته مع الناس ؛ فإنه إن أصرَّ على معاملة الناس بالمثل، والتدقيق معهم: طال حزنه, ولم يشفِ غيظه.
- ثم إن تنازل المسلم عن بعض حقِّه، ولاسيما من عرضه فإنها صدقة، فقد دعا عُلْبة بن زيد الأنصاري رضي الله عنه فقال: «اللهم إني ليس لي مال أتصدق به، فأيما رجل من المسلمين نال من عرضي شيئاً فهو عليه صدقة، فلما كان من غدٍ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: أين المتصدق بعرضه البارحة»؟ فقام عُلْية بن زيد فقال: أنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد قبل الله صدقتك».
- يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن الصبر على الناس في مخالطتهم: «المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم : أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم».
- وقد يبتلى المسلم بشخص يعاشره، ولا يستطيع الفكاك منه، فلا بد –والحالة هذه - أن يعاشره بالمعروف، وإلا تفاقم الشر بينهما.
- وفي هذا يقــول محمد بن الحنفية رضي الله عنه : « ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بدَّاً حتى يجعل الله له فرجاً ».
- والناس إما مؤمن قد كفاك شره، وعصمه الإيمان من أن يُسيئ إليك ، فهو ملجمٌ بلجام التقوى، وهذا النوع من الناس قليل.
- وإما جاهل معاند سليط اللسان ، إن جاريته غلبك، وإن نصحته ردَّك، وإن سكتَّ عنه ما تركك، وهذا النوع من الناس كثير.
- ومع هذا الصنف من جهلة الناس يقـول الله تعالى في نهج السلوك معهم: " وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا " ؛ يعني : يصفحون عنهم ، ولا يخوضون معهم في باطلهم ، ولا يجارونهم في سلوكهم.
- يقول أنس بن مالك رضي الله عنه في قوله تعالى : "وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ "، قال: «الرجل يشتمه أخوه، فيقول: إن كنت صادقاً فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك».
- يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله : «يا بني إذا سمعت كلمة من مسلم فاحملها على أحسن ما تجد، حتى لا تجدَ محملاً».
- وكان يقول: «أعقل الناس أعذرُهم لهم».
- ويقول الحسن البصري رحمه الله : «التودد إلى الناس نصف العقل ».
- ويقول أيوب السختياني رحمه الله : «لا ينبل الرجل حتى يكون فيه خصلتان : العفَّة عما في أيدي الناس، والتجاوز عما يكون منهم ».
- يقول حميد بن هلال العدوي البصري رحمه الله : « أدركت الناس يعُدُّون المداراة صدقة، تُخرَجُ فيما بينهم ».
- وقال – أيضاً -: «إذا بلغك من أخيك ما تكره، فالْقَهُ بما يُحب ، فإنك تقضمُهُ جمرتَهُ ، وهو لا يشعر » ؛ يعني تعيد إليه إساءته وهو لا يشعر.
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: " وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ".
* * *
- أيها الإخوة : إن من الضروري أن يفرِّق المسلم بين المداراة التي أُمرنا بها، وبين المداهنة الممنوعة شرعاً، فالمداراة : خفض الجناح للناس ، ولين الجانب ، والعفو عن الخطأ ، وبذل الكلمة الطيبة، وترك الغلظة في القول والفعل، وتجنُّب الصدام والإثارة.
- أما المداهنة: فهي معاشرة أصحاب الباطل بإظهار الرضا بأفعالهم القبيحة، وعدم الإنكار عليهم، وهذا ممنوع شرعاً.
- وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يداري الناس ، ولاسيما جفاة الأعراب، من أصحاب الجاه والسلطة، ولكنه ما كان يداهنهم ، ولا يقرُّهم على باطل.