- أيها المسلمون : يفتقر الإنسان إلى البيئة الاجتماعية، يحيا فيها، ويتفاعل معها، ويؤثر فيها، ويتأثر بها.
- ولا يمكن للإنسان أن ينال صفاته الإنسانية إلا من خلال المجتمع، يتلقى عنه اللغة والعقائد والثقافة ، والمهارات المختلفة.
- فلو قدِّر لإنسان أن يحيا حياته كلَّها محروماً من المجتمع: فإنه يفقد إنسانيته الحقيقية ، ولا يبقى معه إلا صورة الإنسان.
- أيها الإخوة : ومع الأهمية الكبرى للمجتمع في حياة الإنسان، فإن العيش في الوسط الاجتماعي له ضريبته وآلامه ومعاناته.
- إن المجتمع يُطالب الفرد بمسؤوليات كبيرة تجاه : نفسه، وأسرته، ووسطه الاجتماعي ، لا تخلو هذه المسؤوليات من معاناة وجهد وجهاد.
- إن المجتمع من خلال نظمه المتعددة يطالب الفرد في خاصة نفسه بمعايير وأخلاق وسلوكيات لا بد منها.
- فإن خالف واتَّبع هواه : عُوتب وعُزِّر وعُوقِبَ ، حتى يعودَ إلى الاستقامة والانضباط الاجتماعي.
- وهو مطالب بمسؤوليات تجاه أسرته، من: النفقة، والقوامة، والرعاية، والتربية، فإن قصَّر: حُوسب على ذلك.
- وهو مطالب – أيضاً – تجاه المجتمع العام: بمسؤوليات اجتماعية عامة، تفرضها طبيعة الحياة الاجتماعية، وتُلزم بها الأفراد.
- فهو مطالب تجاه المجتمع باحترام نظام الدولة، ومراعاة الآداب العامة، والتلطُّف بالقرابة والصداقة والجيرة، وإتقان العمل والصنعة.
- فإن فرَّط في شيء من ذلك، أو أهمل فإنه يُعاقب، أو يُسجن، أو يُغرَّم بقدر مظلمته وتقصيره تجاه أصحاب الحقوق.
- وهكذا – أيها الإخوة – لا تخلو الحياة الاجتماعية من معاناة ومكابدة ، يلتزم فيها الفرد تجاه : نفسه وأسرته ومجتمعه بأمور لا بد منها.
- فبقدر ما يغنم الفرد في المجتمع من مصالح كثيرة، فإنه مقابل ذلك يغرم، فيقدِّم من نفسه جهداً لا بد منه.
- ولهذا نصَّ الفقهاء: (أن الغُنم بالغرم، والغرم بالغُنم) يعني: بقدر ما تغنم من المصالح : تغرم من المفاسد.
- فالإنسان في المجتمع يغنم من السلطان مصالح كثيرة في : حفظ الأمن، وطلب المعاش، ومع ذلك يغرم – في بعض الأحيان - بسببه مفاسد من ظلم وتقصير.
- والإنسان في وسطه الاجتماعي يأنس به، وينتفع منه، ومع ذلك لا يسلم من أذى يلحقه في : نفسه أو عرضه أو ماله.
- فهذا يظلمه، وهذا يشتمه، وهذا يختلس من ماله، وهذا يفتري عليه، وأقلُّ القليل : متهوِّر يأتي فيصدم سيارته.
- وأما الإنسان مع أسرته؛ فإنه ينعم بزوجته، ويأنس بولده، ومع ذلك فإنه يكدح عليهم ويشقى، وربما لاقى من زوجته العنت والصدود وكفران العشير، وربما لاقى من ولده العقوق ونكران الجميل، وهكذا الإنسان في سيره الاجتماعي لا يخلو من مغنم ومغرم.
- فلو أراد أحدنا أن تصفو له الحياة الاجتماعية بمصالحها دون مفاسدها : فإنه واهم يسعى نحو السراب، ويطلب المستحيل.
- فإن رأى الانعزال عن حياة الناس وترك الاختلاط بهم، والتخفُّف من الأسرة والأولاد ، والخروج إلى البوادي والشعاب ؛ فإنه يطلب أمراً عسيراً لا يقدر عليه إلا نوادر الناس.
- فمن يطيق أن يحيا بلا أسرة يأوي إليها، ولا مجتمع يخالطه، ولا مسجد يصلي فيه، ولا سلطانٍ يرعى شؤونه ، ويحمي الثغور ؟
- إنه يروم المستحيل ، ويطلب ما لا يكون ، ومن هنا – أيها الإخوة – جاءت الشريعة الإسلامية – في المسألة الاجتماعية- بالأمر : بالصبر والاحتساب والعفو والصفح.
- " وَالْكَاظِمِينَ
الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ "
،
" وَقُولُواْ لِلنَّاسِ
حُسْناً ".
- "ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ".
- "فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ...".
- " وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ ...".
* * *
- أيها المسلمون : إن الحياة الاجتماعية لا تخلو من مفاسد ومظالم وآلام، مع ما يتخلَّلها من مصالح ومنافع وخيرات، ومن هذا الذي تصفو له الحياة بغير كدر؟!
- أيها الإخوة: أي ألم يجده الرجل حينما يكتشف أن زوجته تخونه مع أعز أصدقائه، كيف تطيب له الحياة ؟
- كيف تأخذ الفتاة حقها من زوج طلقها في نفاسها بعد أن دخل بها بتسعة أشهر، ثم أخذ مالها ، وانتزع منها رضيعتها فلم ترها خمس سنوات ؟
- ماذا يصنع جار بجاره ، يُطلق عليه مياه الصرف الصحي ، ويترك أولاده يعبثون بممتلكاته، ولا يترك فرصة إلا شكاه هنا وهنا.
- يُصادق أحدهم صاحبه دهراً طويلاً ، وفي يوم من الأيام ، وبلا مقدمات ينقلب عليه عدوَّاً لدوداً ، يفتري عليه ويكذب.
- طبيب تسلِّمه نفسك، وتثق في علمه ومهارته ، فتخرج من عنده أسوأ مما كنت، هذا فقد بصره، وهذا شُلَّت أطرافه وهكذا.
- يوشي أحدهم بالرجل عند السلطان، فيكتب فيه التقارير الباطلة، فيأخذه أعوان السلطان ويعذبونه، ثم يتضح أنه بريء.
- كم هو صعب – أيها الإخوة – أن يأتي الظلم ممن تنشد عنده العدل، وتأتي القطيعة ممن ترجو عنده الوصل ؟
- كم هو شديد أن تأتي الخيانة ممن تظن عنده الأمانة، ويأتي الافتراء ممن تظن به الصدق ؟ إنها ضريبة المجتمع لمن أراد الحياة بين الناس.