- أيها الإخوة : سورة من القرآن الكريم نزلت جملة واحدة في مكة، شيَّعها سبعون ألف ملك، قد سدوا الأفق.
- إنها سورة الأنعام، نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم ليلاً وهو يسير على ناقته، حتى كادت عظام الناقة تتكسَّر من ثقلها وشدَّتها.
- نزلت هذه السورة العظيمة تؤكد العقيدة، وتربط جميع التشريعات بالإله الواحد، وتَلفت إلى النظر في الكون للاعتبار والفهم.
- وفي ثلاث آيات من خاتمة هذه السورة: أوصى الله عبيده بعشر وصايا عظيمة: تُعَدُّ دستوراً للحياة الإنسانية الكريمة.
- قال الله تعالى : " قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ".
- يقول ابن مسعود رضي الله عنه : «من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه، فليقرأ هذه الآيات الثلاث».
- ولهذا كان كثيراً ما يبايع الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه على الالتزام بهذه الوصايا الواردة في هذه الآيات.
- وكان الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة كثيراً ما يعرضها على القبائل الوافدة في موسم الحج؛ لما تضمنته من المعاني الجليلة التي يُحبها العقلاء ، وتتقبَّلها النفوس السَّوية.
- أما الوصية الأولى : فهي الوصية بالتوحيد الخالص لله تعالى والتحذير من الشرك، فسلامة العقيدة من الشرك ومظاهره هي قاعدة الدين الأولى، وأساسه الأعظم.
- وقد وعد الله بالتجاوز عن جميع الذنوب إلا ذنباً واحداً وهو الشرك بالله تعالى : " إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ".
- فالمسلم الموحِّد لا يصرف شيئاً من العبادة لغير الله : كالدعاء أو الذبح أو النذر ونحوها ، ولا يأتي باعتقاد أو عمل يخرجه عن أصل الإيمان.
- أما الوصية الثانية : فهي الوصية ببر الوالدين، ولعظيم مقام البر بهما جاء بعد التوحيد؛ للتأكيد على ضرورة البر، وتحريم العقوق.
- فكم هو جميل أن يتوجَّه الأبناء بالبر والإحسان إلى آبائهم وأمهاتهم، فإن أعظم سعادة تغمر الوالدين حين يشعران بعطف ورحمة أبنائهما.
- وإن أتعس شيء يواجه الآباء والأمهات هو العقوق؛ ولهذا كانت عقوبة العقوق في الدنيا قبل الآخرة، وكم من عاقٍّ انتقم الله منه فأذاقه أليم ما صنعت يداه.
- وأما الوصية الثالثة: فهي الوصية بتحريم قتل الأولاد بسبب الفقر والفاقة، فقد كان بعضهم يقتل ولده بسبب الفقر، وقلَّة ذات اليد.
- ولما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن أيِّ الذنب أعظم ؟ ذكر الشرك بالله ثم قال: « أن تقتل ولَدَكَ خشية أن يطعم معك ».
- وقد وعد الله بالرزق من عنده فقال سبحانه وتعالى: " نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ".
- وقال أيضاً : " وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ".
- فليحذر الذين يُسقطون الأجنة من بطون الأمهات لغير ضرورة شرعية ملحَّة، والذين يحدِّدون النسل لغير ضرورة شرعية.
- وأما الوصية الرابعة: فهي الوصية بالنهي عن الاقتراب من الفواحش، وما ذلك إلا رغبة في طهارة المجتمع ، ونشر العفاف والنقاء.
- والنهي الرباني جاء بالتحذير من مجرد قرب الفواحش وليس فقط من الوقوع فيها، فالتبرج والاختلاط والخلوة وإطلاق البصر كلُّ ذلك : قرب من الفواحش، وهو من المحرمات التي أوصى الله بالحذر منها.
- أما الوصية الخامسة: فهي الوصية بتحريم قتل النفس بغير حق، فالنفس الإنسانية كريمة، ونفس المسلم عظيمة، فزوال الدنيا أهون من إراقة دم مسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه، وويل لمن أتى الله يوم القيامة بدمٍ حرام قد سفكه.
- أما الوصية السادسة: فهي الوصية بالمحافظة على مال اليتيم، الذي فقد أباه قبل بلوغه رشـده، فلم يعــد له من يدافع عنه ويحميه إلا الأقارب، وقلَّ أن يُوجد في الأقــارب المخلص المشفــق، ولهذا جــاء التحذير: " إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ".
- أما الوصية السابعة: فهي الوصية بالعدل في الكيل والميزان، فلا غش ولا تطفيف، فمن استوفى الثمن فعليه أن يدفع لصاحب المال حقَّه من البضاعة كاملاً لا نقص فيه، والمسلم يتعجَّب من بعض الباعة يبيع العلب ناقصة، ويبيع الصناديق من الفاكهة ونحوها فيكون ما في أعلاها غير ما في أسفلها.
- أما الوصية الثـَّامِنَة : فهي الوصية بالعدل في القول مع النفس والقريب، فلا يبالي المسلم بكلمة الحق ولو كانت على نفسه أو قريبه.
- ولقد تواطأ المجتمع - للأسف إلا من رحم الله - على الحيف ضد الأجنبي لصالح القريب، وقلَّ من يقف بكلمة الحق على نفسه وأهله.
- أما الوصية التاسعة : فهي الوصية بالوفاء بالعهد، وتنفيذ الالتزامات المستحقة في العقود وغيرها، والناظر في واقع المجتمع يجد أن بيننا وبين هذه الوصية بوناً شاسعاً، حتى ما تكاد تجد أحداً إلا ونيته التفلُّت من العهود والمواثيق إلا ما كان مصلحة له.
- وأما الوصية العاشرة: فهي الوصية بالتزام الصراط المستقيم، وعدم الحياد عنه، فقد خطَّ الرسول صلى الله عليه وسلم خطاً مستقيماً وقال: « هذا سبيل الله، ثم خطَّ خطوطاً عن يمينه وشماله، وقال: هذه سبل ، على كل سبيل شيطان يدعو إليه ».
* * *
- أيها المسلمون : لقد شملت هذه الوصايا دستوراً : عقدياً وخلقياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً ينظم حياة الإنسان، ويضبط معاملاته، ضمن حد الشرع والعدل.
- كم هي حاجة المسلمين اليوم للقيام بهذه الوصايا العظيمة في حياتهم، وفي معاملاتهم ؟
- فلطالما عجَّت الساحة، وامتلأ المجتمع المسلم من مظاهر : الشرك، والعقوق، والإجهاض، والزنا، والقتل، وأكل أموال الناس بالباطل، والتطفيف في المكاييل والموازين، والظلم في القول، والخيانة في العهود، والحيدة عن الصراط المستقيم، التي يخوض فيها كثير من المسلمين اليوم ؟
- كم هي المخالفات الصارخة التي يحياها المسلمون اليوم في حياتهم، والتي تخالف بقوة، بل تصادم هذه الوصايا الربانية، وتعاكس مسارها.
- إن المسلمين اليوم في حاجة إلى إعادة بناء أنفسهم، وصياغتها من جديد؛ لتكون طائعة لله تعالى.