- أيها المسلمون : لا يزال الإنسان منذ خلقه الله يعيش في بلاءٍ ومحن، تزيد تارةً وتنقص تارة، وتثقل أحياناً ، وتخفُّ أحياناً أخرى.
- ويستحيل في طبيعة الحياة الإنسانية أن نجد شخصاً سلم تماماً من الابتلاء، قد حفَّته السعادة من كل مكان، لا همَّ عنده ولا حزن ، فمثل هذا بعيد.
- فكم من سلطان ابتلاه الله بالخوف، وكم من غني ابتلاه الله بالمرض، وكم من قويٍّ ابتلاه الله بالفقر، وكم من سويٍّ ابتلاه الله بالظلم.
- وهكذا لا ينجو أحد من نوع ما من الابتلاء ، يقاسي ألمه، ويكابد حزنه، ويعاني شدَّته ، والكل يظن أن بلاءه أعظم البلاء.
- ولئن كان الناس قد اتَّحدوا في مبدأ الابتلاء، فقد اختلفوا اختلافاً بيِّناً في حجم الصبر عليه، والرضا والتسليم لله تعالى .
- فمن الناس من يجزع ويخرج عن طبعه لأقل بلاء ينزل به ، أو مصيبة تقع عليه ، ومنهم من يصبر ويتجلَّد لأعظم المصائب ، ومنهم من هو بين هذا وذاك.
- والعاقل يجد أن الصبر والجزع لا يغيِّران من قضاء الله شيئاً، وإنما ينال الصابر الأجر على صبره، وتسكن نفسه للقضاء والقدر.
- وأما الجَزِعُ فيلحقه الإثم على تسخُّطه، ويضيق لذلك صدره، ويخرج من مصيبته خاسراً بلا حسنات.
- ولهذا أمرنا الله تعالى بالتحلِّي بالصبر، فقال: " وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ".
- وقال: " وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ".
- ووعد الصابرين بالبشرى الحسنة فقال : " وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ".
- ولقد جعل الله الصابرين من أهل محبته فقال تعالى :" وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ".
- ووعد الله الصابرين في العاقبة بالأجر الحسن المضاعف فقال سبحانه وتعالى: " إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ".
- وقال تعالى : " أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا ".
- ولقد أمر الله نبيَّه محمداً صلى الله عليه وسلم بالصبر فقال: " وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ ".
- وقال سبحانه وتعالى أيضاً: " فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ".
- ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبر الناس على الإطلاق، فقد كانت حياته الشريفة سلسلة من الابتلاءات المتلاحقة.
- لقد ابتُلي رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه وأهله وولده وماله وأصحابه، وكان عنوانه في كلِّ ذلك الصبر والرضا.
- وما كان يزيد في المصيبة على حزن القلب ودمع العين، ولا يقول إلا ما يُرضي ربه عز وجل.
- وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «الصبر نصف الإيمان».
- ويقول: «ما أعطي أحدٌ عطاءً خيراً له وأوسعَ من الصبر».
- ويقول أيضاً: «عجباً لأمر المؤمن ، إن أمره كلَّه له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضرَّاء صبر، فكان خيراً له ».
- ولقد سَمَّى الله نفسه بالصبور، وأمر بالصبر، وحثَّ عليه، وأثنى على أهله في تسعين موضعاً من القرآن الكريم.
- ولهذا خلص العلماء بوجوب الصبر على المسلم المكلف بأنواعه الثلاثة:
- الأول : الصبر على طاعة الله تعالى ؛ بأداء الفروض على الوجه المأمور به في غير تأفف ولا تذمر ولا ضيق.
- الثاني : الصبر عن معصية الله تعالى ؛ باجتناب المنهيات ، من الصغائر والكبائر.
- الثالث : الصبر على البلاء والمصائب في غير تسخُّط ولا جزع، مع الرضا والتسليم.
- أيها المسلمون: ولئن كان فضل الصبر عظيماً، فإن أمره صعب عسير، إلا على من يسَّره الله عليه؛ فإن الله تعالى يقول: " وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ " .
- ويقول تعالى : " وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا ".
- ويقول سبحانه : " وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ ".
- ولكن لا بد أن نعلم أنه من يتصبَّر ويجتهد في ذلك : يُصبِّره الله، وينزل عليه من الصبر بقدر البلاء الذي أصابه.
- فهذه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما يُقتل ولدها ويُصلب، فتتجلَّد وتصبر ، ولا يظهر عليها حزن ولا تسخُّط، وكأنه ما أصابها شيء.
- وهذه أسماء بنت عميس رضي الله عنها، لما بلغها مقتل ولدها: جلست في مسجدها، وكظمت حزنها وصبرت، حتى تفتَّق ثدياها بالدم من شدة الحزن، ومع ذلك لم تجزع، ولم تتذمَّر.
- وكم من فضلاء السلف يصيبه البلاء في جسده وبصره، فلا يعلم أحدٌ خبره، ولا يشكو همَّه وألمه وحزنه إلا إلى الله تعالى.
- إنه الصبر الجميل، الذي لا شكوى معه، ولا تذمُّر ولا تسخُّط، قد امتلأ قلب صاحبه رضا عن الله تعالى وقضائه.
- اللهم رضِّنا بقضائك وقدرك، واملأ قلوبنا يقيناً ورضا، وأجْرِ على ألسنتنا ما يرضيك يا رب العالمين.
* * *
- يا أيها المسلمون : إن حقيقة الصبر: حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش والاضطراب.
- إنه الرضا الذي ملأ قلب صاحبه فأثمر السكون، لاسيما عند الصدمة الأولى، عند أول نزول البلاء.
- واعلموا أيها المسلمون: أن أكثر الناس جزعاً عند المصيبة: أشدُّهم حباً للدنيا، وأقلَّ الناس هماً أكثرهم صبراً، وأفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس، وكان مخالفاً للهوى، ومن شكا مصيبته لغير الله لم يجد حلاوة العبادة.
- أيها المسلمون: يقول نبي الله سيدنا عيسى عليه السلام: «إنكم لا تدركون ما تحبون إلا بصبركم على ما تكرهون».