- أيها الإخوة : باب من أبواب الخير ، وهو من أجلِّ العبادات وأعظمها وأحبِّها إلى الله تعالى ، لا يُغلق أبداً في ليلٍ ولا نهار.
- باب جليل عظيم فتحه الله للعباد ، يلجون منه إلى حاجاتهم ورغباتهم ، يدخلون منه إلى ملك الملوك بلا واسطة .
- يدخل منه الفقير المعدم ، والمحروم المتعب ، والمظلوم المضطهد ، والمريض المنهك ، والمصاب الحزين ، لا يردُّهم أحد .
- إنه الباب الوحيد الذي ليس عليه حرس ولا بوَّابون ولا حَجَبة ، إنه باب الدعاء أكرم العبادات عند الله تعالى .
- يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن فضله : « ليس شيء أكرم على الله من الدعاء » ، فهو مخ العبادة ، بل هو العبادة بعينها .
- وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الدعاء مخ العبادة » .
- وقال أيضاً : « الدعاء هو العبادة ».
ــ والدعاء سلاح المؤمن البتَّار في وجه كل ظرف قاس ، أو حال غير مرغوب فيها، أو ضيق ، أو ظلم ، أو إخفاق في الحياة ، أو ذنب يقع فيه العبد .
- لقد كان الدعــاء هو باب أبينا آدم عليه السلام وزوجــه إلى الفرج حين وقعــا في الخطأ : " قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ " .
- هو باب أبينا إبراهيم عليه السلام لحماية ولــده وزوجــه وعمـارة مكة : " رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ " .
- ولقد كان الدعاء وسيلة زكريا عليه السلام للذرية : " رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ".
- ولما ضاق الأمر بالرسول صلى الله عليه وسلم حين تآمرت قريش على قتله دعا ربه : " وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً "، فكان الفرج بعد ذلك من الله تعالى بتيسير أمر الهجرة المباركة إلى المدينة .
- ولما ضاقت السبل بالثلاثة أصحاب الغار ، وأيقنوا بالهلاك : كان الدعاء وسيلتهم للخروج والنجاة .
- أيها المسلمون : إن الدعاء من العبادات التي اختصَّ الله بها وحده دون سواه ، وأمرنا بها ، وحثنا عليها ، وهدَّد المعرضين عنها .
- قال الله تعالى : " وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ".
- ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : « من لم يدع الله غضِبَ عليه » .
- وقال أيضًا : « سلوا الله من فضله فإن الله يُحب أن يُسأل ».
- وصدق الشاعر إذ يقول :
الله يغضبُ إن تركت سؤاله وبُنيُّ آدمَ حين يُسألُ يغضبُ
- أيها المسلمون : للدعاء شروط لا بد من توافرها لقبوله ، فإن الشخص يُحرم الإجابة لخلل ما في دعائه أو معتقده أو سلوكه .
- ومن أهم شروط قبول الدعاء : الإخلاص لله تعالى ، والبراءة من الشرك كما قال الله تعالى : " وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ".
- والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : « إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله » .
- ومن شروطه أيضاً : سلامة المطْعم ؛ فإن دعاء العبد تُغلق دونه أبواب السماء بسوء الطعْمة، التي يقذفها في بطنه من الحرام .
- والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: « والذي نفس محمد بيده : إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه: ما يُتقبل منه أربعين يوماً ، وأيُّما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به » .
- ومن شروطه أيضًا الاستقامة على طاعة الله ؛ فإن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وفي الحديث القدسي يقول الله عن أوليائه المتقين : « ولئن سألني لأعطينَّه ، ولئن استعاذني لأعيذنَّه » .
- ومن شروط قبول الدعاء أيضاً : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ فإن الأمة إذا تواطأت على تركه: حرمهم الله إجابة الدعاء ، وفي الحديث : «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر ، أو ليوشكنَّ الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ، ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم » .
- ومن شروطه أيضاً : عدم الاعتداء في الدعاء ؛ كالدعاء بالإثم ، وقطيعة الأرحام ، والهلاك ونحوها ، من الدعاء المتضمن لمعاني الاعتداء .
- واعلموا أن الله يستجيب : للصالح من الناس ، والمضطَّر ، والصائم ، والمسافر ، والحاكم العادل ، والوالد ، والمظلوم ، وللرجل يدعو لأخيه بظهر الغيب ، كما يستجيب في وقت السحر ، وآخر ساعة من يوم الجمعة، وبين الأذان والإقامة ، وفي دبر الصلوات ، ويستجيب للداعي في حال غفلة الناس ولهوهم .
- أيها المسلمون : لا بد للدَّاعي أن يحرص على هذه الشروط ، وأن يزيد عليها آداب الدعاء ، ومن أهمها : الوضوء ، واستقبال القبلة ، ورفع اليدين ، والإلحاح والتضرع ، والحذر من رفع الصوت ؛ فإن الله يقـول : " ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ " .
- وليحذر المسلم الدعـاء حال النعاس ، وفي الركـوع ، وحال القيام في الصلاة للقراءة ، وعند قضاء الحاجة فهذه مواضع لا دعاء فيها .
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :" وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ، فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ".
* * *
- أيها المسلمون : يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : « في الليل ساعة لا يسألُ الله فيها عبدٌ مسلم شيئاً إلا أعطاه الله ، وذلك كلَّ ليلة » .
- وقد سأل نبيُّ الله داود جبريل عليهما السلام فقال : « يا جبريل أيُّ الليل أفضل ؟ قال : يا داود لا أدري إلا أن العرش يهتز من السَّحر » .
- ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذه الساعة : « ينزل الله عزوجل كلَّ ليلة إلى سماء الدنيا ، فيقول : من الذي يدعوني فأستجيب له ، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له ، من ذا الذي يسترزقني فأرزقه ، من ذا الذي يستكشف الضرَّ فأكشفه عنه ، حتى ينفجر الفجر ».
- ويقول أيضًا : « إن الله عز وجل يفتح أبواب السماء لثلث الليل الباقي، ثم يهبط إلى السماء الدنيا ، ثم يبسط يده ، ثم يقول : ألا عبد يسألني فأعطيه ، حتى يسطع الفجر ».
- وفي رواية أخرى : « ألا سائل يُعطى ، ألا داع يُجاب ، ألا سقيم يستشفي فيُشفى ، ألا مذنب يستغفر فيُغفر له ».
- أيها المسلمون : إن من أرذل مسالك الدعاء : استعجال الإجابة ، كأنما يختبر الرجل ربَّه ، يقول :« قد دعوت ربي فلم يستجب لي » .
- وهذا لا شك قبيح ؛ فإن الله حيي كريم ، يستحيي أن يرفع العبد إليه يديه فيردَّهما صفراً خائبتين .
- ولهذا فإن العبد حين يدعو بخير فإنه بين إحدى ثلاث : « إما أن يعجِّل له دعوته ، وإما أن يؤخِّرهـا له في الآخرة ، وإما أن يدفـع عنه من السوء مثلها »، فهو على خير في كل أحواله ، ما فاته شيء .
- ثم إن مقامه على باب الله تعالى يسأله: خير له من انصرافه بمسألته ، فهو على خير مادام في دعاء دون ملل ؛ فإن من فتح الله له باب الدعاء فقد فتح له باب الخير والمغفرة ، وفي حديث : « من أُذن له بالدعاء : فتح له أبواب الرحمة» .
- ولهذا كان همُّ السلف في الدعاء أكثر من همِّهم في الإجابة ؛ فإن أعجز الناس من عجز عن الدعاء .