- أيها الإخوة : لقد انقضى شهر رمضان المبارك بعد أن كان أياماً نستقبلها وننتظرها ، فأصبح حاضراً ثم غدا ماضياً وذكرى نتذكرها.
- وهكذا باقي الأيام ننتظرها ، ثم تكون حاضراً نعيشه ، ثم تغدو ماضياً نودِّعه، فيذهب ولا يعود إلينا أبداً .
- تذهب تلك الأيام وتمضي محمَّلة بأعمال العباد ، صالحها وفاسدها ، فيُختم عليها فلا تفتح إلا للحساب يوم القيامة .
- أيها الإخوة : لقد قمنا بأعمال كثيرة استودعناها أيامنا الماضية ، منها أعمال صالحة نرضاها ونحبُّها ، ومنها أعمال نكرهها ولا نحبُّها .
- وأعمال أخرى واجبة كان من المفروض أن نقوم بها في أوقاتها فأهملنا وفرَّطنا ، فذهبت تلك الأيام مفرَّغة من الصالحات .
- إن الله فرض فروضاً ، وأوجب علينا أموراً ، وحدَّد لبعضها أماكن وأزمنة معيَّنة فأهملناها وفرَّطنا فيها ، فذهبت تلك الأيام بما فيها.
- إن الله لا يقبل عمل الليل في النهار، ولا عمل النهار في الليل، وما حدَّده في أيام معيَّنة لا يقبله في غيرها، إلا من عذر شرعي.
- فمن أدَّى تلك الأعمال في أوقاتها ومواقعها كما أمر الله تعالى ، فنرجو له القبول ، ومن فرَّط فيها فأمره إلى الله ، إن شاء غفر له ، وإن شاء عذَّبه .
- أيها الإخوة : إن أناساً بيننا ، يعيشون معنا ، قد ثقلت عليهم التكاليف الشرعية ، وودُّوا لو أنهم يعيشون في الحياة هملاً ، لايُؤمرون ولا يُنهون ، كحال الدواب والأنعـــام لا تكاليف عليها ولا واجبات، والله تعالى يقـــول : " أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ " .
- إن ما يميِّز الإنسان عن سائر المخلوقات الأخرى من العجماوات إنما هِيَ التكاليف الشرعية ، التي فرضها الله تعالى عليه وخصَّه بها ، كما قال الله تعالى : " إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ".
- لو لم تكن التكاليف الشرعية هي الفارق بين الإنسان وسائر المخلوقات العجماوات ، فما هو الفارق بين الإنسان والحيوان ؟
- إن هذه التكاليف الشرعية التي كلَّف الله بها الإنسان ، مع ما فيها من الجهد والمعاناة ، فإنها مع ذلك تحمل للإنسان تشريفاً وتكريماً.
- فالإنسان لم يُرفع ليكون سيد الكون ، وخليفة الله في الأرض إلا من جهة التكليف ، فهو مكرَّم لأنه مكلَّف .
- وما سخَّر الله للإنسان ما في السموات و ما في والأرض إلا ليستعين بها على القيام بالتكاليف الشرعية .
- فما بال أناس يستثقلون التكاليف الشرعية ، يكره أحدهم وصف الأعمال والأشياء بالحلال والحرام ، يريد أن يعيش بلا أحكام ، وإنما هو الهوى ، إذا صادف شيئا يحبُّه : أخذ به ، وإذا صادف ما يكره : أعرض عنه.
- أيها الإخوة : إنَّ كلَّ تكليف كلَّفنا الله تعالى إيَّاه هو في مصلحتنا ، ويحقق منفعتنا ، لا يصلُ إلى الله من ذلك مصلحةٌ ولا منفعة .
- فالعبادات والمعاملات والحدود ، كلُّ ذلك إنما شرعه الله لتحقيق مصلحة العباد في العاجلة والآجلة .
- فالعبادات وما فيها من الشعائر ، وما تحمله من الجهد والمجاهدة والمعاناة، إنما شُرعت لتزكية نفوسنا وتطهيرها ، والترقي بها في درجات الكمالات الإنسانية.
- والمعاملات إنما شُرعت لضبط الحقوق ، وسلامة العلاقة بين الناس ، والقيام بالقسط .
- والحدود هي الأخرى إنما شُرعت لإحقاق الحق ، وقيام العدل ، وإصلاح الحياة ، وتطهير المذنب من رجس المعصية .
- فلا شيء يصل إلى الله من هذه الأعمال إلا كما قال تعالى :" لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ... " .
- إن المسلم الحق هو الذي تمتلئ نفسه بالرضا والإجلال لما أنزله الله تعالى من الأحكام والتشريعات .
- يعلم أن في كلِّ تكليف رحمة ، وفي كل إلزام خير ، وفي كل توجيه هداية ، لا تثقل عليه التكاليف بل ينشرح بها صدره .
- وإن المبطل من الناس من يعتقد أن التكاليف الشرعية آصارٌ وأغلال ، تقيِّد حركة الإنسان في الحياة ، وتعُوق تحضُّره وتمدُّنه .
- سبحان الله ، ما أعظم هذه الفرية ، كيف تكون التكاليف الشرعية عائقاً في طريق تقدم الإنسان وتحضُّره والله تعالى هو الذي كلَّف الإنسان بعمارة الأرض وإثارتها ؟
- فكيف يأمره بعمارة الأرض، التي تتطلب الحركة والانطلاق ؟ في الوقت الذي يعوقه بالتكاليف الشرعية، إن مثل هذا التصور لا يكون أبداً .
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : " ... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً... " .
* * *
- أيها المسلمون : بقدر ما ارتبطت هذه التكاليف الشرعية بالإلزام ، ووجوب التنفيذ كما قال تعالى: "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ".
- فإنها مع ذلك قد تكلَّلت بالتيسير ، والتسهيل ، ورفع الحرج كما قال تعالى: " لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ...".
- إن المشكلة لا تكمن في التشريع ، وإنما تكمن في النفوس القاسية ، التي لم تقنع بعدُ بحكم الله تعالى ، ممن يميل إلى حكم الجاهلية .