- أيها
المسلمون : لم يَكَد يدخل علينا شهر رمضان حتى أخذت أيامه تذهب مسرعة ، لم نُفق
إلا عَلَى عَشْره الأواخر وهي تمضي سريعة بلا انتظار .
- لقد فتح
علينا شهر رمضان سوق الآخرة كأوسع ما يكون ، الحسنة بسبعمائة ، إلى أضعاف كثيرة لا
يعلمها إلا الله .
- وهاهم تجَّار
الآخرة قد شمَّروا عن ساعد الجد ، فهذا الصائم ، وهذا المتصدِّق ، وهذا المعتمر ،
وهذا المعتكف ، وهذا الذاكر والمبتهل والداعي.
- الكل
مشغول ببضاعته في سوق الآخرة ، يروِّج لها ، يخشى كسادها، ويرجو قبولها .
- فهذا
الصائم الحريص على سلامة صيامه من اللغو والرفث ، قد صان صيامه من المفطِّرات المادية
والمعنوية .
- لقد هابه
أن يكون صائماً في الظاهر مفطراً في الحقيقة ، لقد خشيَ أن يكونَ نصيبُه من الصيام
: الجوع والعطش والحرمان من الأجر .
- لقد حفظ
لسانه عن الباطل ، وترفَّع بسمعه عن المعازف والملاهي ، وغضَّ بصره عن المحرمات
والملهيات .
- وهذا
القائم الخاشع في صلاته ، والحريص على السنة ، قد توقَّى على صلاته من الرياء
والسمعة ، لا همَّ له إلا مرضاةُ ربه .
- يخاف على
صلاته من محبطات العمل ، ويخشى أن يكون نصيبه من صلاته : التعب والسهر والنصب .
- وهذا
المتصدِّق الحريص على وضع صدقته في موضعها، ينفق بلا حساب في سيبل الله ، لا تعلم
شماله ما تنفق يمينه .
- يعلـم أن
الله طيب لا يقبـل إلا الطيب من النفقة ، فاكتسب ماله من حلال ، ووضعه فيما أحب
الله تعالى من الحلال.
- وهذا
المعتمر قد جاء من الآفاق يلبي دعوة ربِّه ، زاده حلال ، ومركبه حلال ، طاف وسعى
وشرب من زمزم ، ولم يُؤذ أحداً .
- جاء من
بلده مشتاقاً إلى البيت ، فلما رآه زاده شوقاً ، فلم يشبع من رؤيته والطواف به ، يقبِّل
الحجر ، ويستلم بيديه الركن .
- وهذا
المعتكف قد تخفف من الدنيا وشواغلها ، قد شغلته الصلاة وقراءة القرآن عن كل
الملهيات ، قد تفرَّغ للعبادة بلا ملل .
- أكله
قليل ، ونومه قليل ، وكلامه قليل ، إنما هو القراءة والذكر والدعاء ، قد انشغل
بربه عن الناس .
- وهذا
الذاكر لله تعالى ، قد انشغل بالتكبير ، والتهليل ، والاستغفار ، قد أمضى يومه
وليلته في ذكر لا ينقطع .
- إذا رآه
الجاهل ظنَّه مهووساً ، وما عرف أنه في جنة الدنيا ، وما علم أن الذكر من أعظم
العبادة : " وَلَذِكْرُ
اللَّهِ أَكْبَرُ "
.
- وهذا الداعي
المبتهلُ إلى الله تعالى ، قد انقطعت نفسه من شدة الدعاء والتضرع والابتهال ، يرجو
القبول ويخشى الرد .
- له حاجات
وضرورات لم يخبر بها أحداً من الناس ، إنما شكاها إلى الواحد الديَّان ؛ لأنه يعلم
أن الفرج لا يكون إلا من عنده تعالى .
- وهذه
المرأة الصالحة ، قد صَلَّت خمسها ، وصَامت شهرها ، وحفظت نفسها ، وأطاعت زوجها ،
تنتظر رحمة ربها في هذا الشهر الكريم .
- لم
تشغلها الزينة واللباس عن نصيبها من رمضان ، قد فطَّرت في بيتها الصائمين ، وأيقظت
للعبادة النائمين .
- تنفق وتتصدق ، وتصلي وتتهجد ، قد أحيت في بيتها
ليالي رمضان ، في دعاء وقنوت ، وذكر وخشوع .
- فإذا
خرجت إلى المسجد خرجت في ستر وأدب ، لا تبرج ولا سفور ، قد لبست جلباب الحياء ، لا
تفتن ولا تُفتن .
- أيها
المسلمون : هؤلاء تجَّار رمضان ، الذين عرفوا الطريق فلزِموه ، وأبصروا الخطر
فتجنَّبوه .
- لقد
نظروا لأنفسهم ، وأعدُّوا لها ، حين أيقنوا أن من لم ينظر لنفسه ، ويُعدَّ لها :
فلن ينظر لها أحد ٌمن الناس ، ولن يعدَّ لها غيره .
- لينظر كلُّ
منا لنفسه ، وليعدَّ لها في هذه الدنيا وليصبر ؛ فإن أطول الناس حزناً في الدنيا
أكثرهم فرحاً في الآخرة .
- أعوذ
بالله من الشيطان الرجيم : " فَمَن يَعْمَلْ
مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا
لَهُ كَاتِبُونَ " .
* * *
- أيها المسلمون : إن الصيام سيد العبادات ، وهو
عبادة السادات ، قد تغلغل حبُّه في قلوب الصالحين من السلف والخلف .
- فقد
التزم الصيام جمع هائل من الصحابة والتابعين وغيرهم ، لا يفطر أحدهم إلا في الأيام
التي حرم الله صيامها .
- قد ملكت
عليهم عبادة الصيام حياتهم ، ينتظر أحدهم الموت صائماً للحديث : « من خُتم له
بصيام يوم دخل الجنة » .
- ليس لهم
همٌّ إلا العبادة ، فرحهم بدوامها ، وحزنهم بفواتها.
- دخل
إبراهيم بن أدهم رحمه الله على أخٍ له يعوده في مرض أصابه ، فوجده يتنفَّس بحرقة
ويتأسَّف ، فقال له : « على ماذا تتنفس وتتأسف ؟ فقال : ما تأسُّفي على البقاء في
الدنيا ، ولكن تأسُّفي على ليلة نمتها فلم أقمها ، وعلى يـوم أفطرته فلم أصمـه ،
وعلى سـاعة غفلت فيها عن ذكر الله تعالى ».
- أيها
المسلمون : إن الخسارة الكبرى هي خسارة الآخرة، ومهما بلغت الخسارة في الدنيا فلن
تعدل شيئاً من خسارة الآخرة .
- فأي خسارة
وندم أعظم من فوات حظوظ الآخرة ، حين يرى التعيس مقعده من الجنة قد أبدله الله به
مقعداً في النار ؟
- فاستعدوا
أيها الناس بمضاعفة حسناتكم في هذا الشهر ؛ فإن أحدكم لا يدري ، فقد يقف دخوله
الجنة على حسنة واحدة .
- واحذروا
لصوص الحسنات ، وقطَّاع الطرق ، الذين يسرقون جهودكم فيحرقونها في المعاصي
والمنكرات .
- فقد عزم
الإعلاميـون وجنَّدوا طاقاتهم لإزالة آثار الصيام من نفوس الناس ، فهل أنتم ممكِّنوهم من ذلك ؟