- أيها المسلمون : يقرُّ العقلاء أن المعلوم من أمر الدنيا أقلُّ بكثير مما هو مجهول لا يعرفه الناس .
- فساحة المعلوم أصغر بكثير من ساحة المجهول ، وكلَّما ازداد الإنسان علماً ازداد يقيناً بجهله .
- ومازال الإنسان يكتشف ويتعلم منذ أول الخليقة ، ومع ذلك لم يكتشف من حقائق الكون إلا القليل .
- وإن من أعجب العوالم التي يؤمن بها البشر، ويقرُّ غالبهم بوجودها : عالم الجن والشياطين .
- فالمسلمون وأكثر طوائف البشر يؤمنون بوجود الجن ، إلا أنهم يختلفون في حقيقتهم وما يتعلق بهم ، تبعاً لاختلاف الأديان والمعتقدات والمذاهب.
- وعلى الرغم من تقدُّم البشرية المعاصرة في شتى العلوم : بقي عالم الجن ضمن العوالم المستورة عن إدراك الإنسان ، المجهولة الحقيقة .
- ومايزال جمع من المغامرين في كل العصور يسعون للكشف عن هذا العالم الغامض ، ويحاولون التعرف على كنهه .
- ويقف المسلمون وحدهم بما معهم من نصوص الوحي الصادق على حافة هذا العالم الغامض .
- يتلمَّسون الحقيقة ، ويتخيَّلون الواقع ، ويجتهدون لإصابة الحق في ضوء ما حباهم الله به من القرآن وصحيح السنة.
- وأما غيرهم من الأمم الأخرى فليس لهم إلا الظنَّ والخرْص والتخمين، وما قد يصلون إليه من الخبرات الفردية والعالمية، مما لا يخرج عن الظن.
- أيها المسمون : إن عالم الجن والشياطين من العوالم الغيبية التي حجبها الله عن البشر لحكمة أرادها.
- إلا أنه سبحانه وتعالى ألزمنا الاعتقاد بوجودهم ، وأنهم خلق من خلق الله تعالى ، مكلفون مثلنا بالعبادة والطاعة لله وحده.
- يأكلون ويشربون ويتناكحون ويتوالدون ويموتون ، ويدخل مؤمنهم الجنة ، ويدخل كافرهم النار ، + كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا " .
- خلقهم الله من نار ، وأسكنهم الأرض قبل البشر ، وخصَّهم دون البشر بالتشكُّل والطيران والسرعة .
- من الجن صالحون مسلمون ، ومنهم عُصَاة ومردة وشياطين وعفاريت ، قد تمادوا في الفساد والضلال .
- وقد ثبت يقيناً اجتماع الرسول r ببعضهم ، فقبلوا دعوة الحق ، فأسلموا وآمنوا ، وعادوا لينذروا قومهم .
- وقد ثبت يقيناً أيضاً أن جمعاً منهم لم يُسلموا، بل حاربوا دعوة الحق ، وآذوا أهلها ، وأولهم إبليس .
- فقد ناصب إبليس العداء لآدم عليه السلام ، قَبْلَ أن تُنفخ فيه الروح ، وقبل أن يعرف حقيقته ، حين كان لايزال في طينته .
- ومازال أعوان إبليس من مردة الجن وشياطينهم يكيدون لذرية آدم من أول الخَليقة حتى نهاية العالم .
- يتسلَّطون عليهم بالغواية والوسوسة والأفكار الرديئة ، وربما بلغ من تسلُّطهم : التلبُّس والمسُّ والخطف والمرض .
- يدخلون على الناس بيوتهم ، ويشاركونهم طعامهم وشرابهم ، وربما يشاركونهم في مناكحهم أيضًا .
- فإن عجزوا عن عظيم الغواية والتسلُّط : رضوا بالوسوسة والإزعاج، والمنامات الموحشة .
- فقد يُوقِعُون في نفس المؤمن خيالاتٍ باطلة فاضحة عظيمة ، لا يستطيع أن يتكلم بها ؛ لعظيم فحشها وقبحها .
- وربما تسلَّطوا على بعض المسلمين بما هو دون ذلك في عباداتهم ، في طهارتهم وصلاتهم ومقاصدهم .
- حتى إن أحدهم ليمكث ساعة يتطهر ويتوضأ ، ويبالغ كأشدِّ ما يكون ، ثم يقع في نفسه أنه لم يتطهر ولم يتوضأ .
- فإذا كان هذا حجم تلاعبهم بالمصلين المستقيمين ، فما هو حجم تلاعبهم بالفاسدين المجرمين ؟ .
- إنهم ليتسلَّطُون على الفُجَّار حتى يعاقروا الخمر ، ويقعوا في الزنا ، ويقتلوا النفس المحرمة ، ويسرقوا الأموال .
- وربما تسلَّطوا على ضعفاء الإيمان فزينوا لهم دعاء غير الله ، والذبح لغيره ، والطواف بغير الكعبة .
- وربما تسلَّطوا على الشباب بالغواية الأخلاقية ، حتى يقعوا في الموبقات والكبائر ، وربما تسلَّطوا عليهم بالغواية الفكرية ، فيقعون في التكفير والتفجير .
- إن عصاة الجن لن يتركوا أحداً من البشر إلا تسلَّطوا عليه ، ولولا فضل الله ورحمتُهُ لتخطفتنا الشياطين .
- ولقد أزعجوا أنبياء الله من قبل ، حتى إن بعضهم كان يعرض للرسول r في صلاته ، يريد أن يقطعها عليه .
- فإذا كان هذا حال الشياطين من مردة الجن مع الصالحين من البشر، فماذا تراهم يفعلون بغيرهم ؟
- ماذا تراهم يفعلون مع الساسة والقادة ، وأصحاب الجاه والمال ، وكيف تراهم يتسلَّطون على الإعلاميين والمغنين والمطربين ؟
- ثم ما هو حجم تسلُّط الشياطين على النساء ، لاسيما في فترات انقطاعهن عن العبادة من صلاة وصيام ، وقراءة قرآن ؟
- إن حجماً ضخماً من الباطل والفساد والغواية التي تعيشها البشرية اليوم كان ولايزال مصدرها من الشياطين ؛ فإنهم يدخلون مع المفكرين ، والمخترعين، وأصحاب الرأي ، فيزيِّنوا لهم الباطل حتى يقولوا ويعلنوا به .
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : + أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا" .
* * *
- أيها الإخوة : إن عالم الجن والشـياطين عالم يرانا ولا نراه ، ويتربَّص بنا ولا نتربَّص به ، ويلاحقنا ولا نلاحقه .
- إنه عالم لطيف وخفيف ، سريع وخاطف ، يسري في أجسادنا وعروقنا ، ويبلغ منا مبلغ الدماء .
- ومع ذلك فهو عالم يغلب عليه السفه والطيش ، وضعف العقول ، وقصور الهمة ، وخلل الفهم.
- ومع أن البشر يخافون الجن ؛ فإن الجن أكثرُ خوفاً من البشر ، ولاسيما البشر من أهل الإيمان والتقوى .
- إنهم يخافون من المؤمن ، ومن أهل العبادة والذكر ، والعقيدة الصحيحة، ممن يتبعون السنة في حياتهم .
- ولا يتسلطـون في العـادة إلا على الفاســق من الرجــال والنسـاء ، ممن لا يصلي ولا يصوم ، ولا يغتسل من الجنابة والحيض .
- وليس للعاقل وسيلة يحمي بها نفسه من تسلط الشياطين إلا في كنف المولى عز وجل ، وحصنه الحصين .
- ولقد كانت الشياطين تهرب من عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فما يراه الشيطان في طريق إلا سلك طريقاً غيره.
- لقد وضع لنا رسول الله r معياراً دقيقاً نفرِّق به بين الحق والباطل ، مما يقع في قلوبنا ، من الأفكار والآراء والأوهام ، فقال عليه الصلاة والسلام: « إن للشيطان لمَّة بابن أدم - يعني خطْرة في نفس ابن آدم - ولِلمَلَك لمَّةٌ ، فأما لمَّة الشيطان فإيعاد بالشر ، وتكذيب بالحق ، وأما لمَّة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق ، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله تعالى ، فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله مِنْ الشيطان الرجيم » .
- اللهم إنا نعوذ بك من الشيطان الرجيم ، من : نفثه ونفخه وغوايته.