- أيها الإخوة : يُقرُّ العقلاء من كل دين وملِّةٍ
أن ما اطلع عليه الإنسان من حقائق الكون وعلومه وخفاياه ، منذ أوَّلِ الخليقة حتى
الآن هو شيء قليل ويسير .
- ومهما
ادَّعى الإنسان من العلم والمعرفة فإنه يسير قليل في مقابل ما خفي عليه من الحقائق
والعلوم والمعارف الغيبية المحجوبة .
- أيها
المسلمون : إن حقائق الكون وعلومه ومعارفه تنقسم إلى قسمين :
- قسم
مُتاح للإنسان في الحياة الدنيا ، يطلع عليه ويراه بقدر اجتهاده .
- قسم آخر
لايمكن للإنسان الاطلاع عليه مهما حاول إلا بعد الممات .
- إنه عالم
الغيب ، بكل ما فيه من العجائب والغرائب ، من الخير والشر .
- لقد حجب
الله تعالى عنا عالم الغيب وأسراره ، وما ذلك إلا للاختبار والابتلاء .
- وليس للإنسان
وسيلة يتعرَّف من خلالها على عالم الغيب غير الوحي المنزل .
- ولقد
تحدَّث القرآن الكريم والسنة المطهرة عن جانب من حقائق عالم الغيب ، الذي ينتظر الإنسان
من حين موته حتى مستقره الأخير في الجنة أو النار.
- ولقد ثبت
عند أهل السنة والجماعة أن أوَّلَ منازل الآخرة هو القبر .
- القبر
بما فيه من الخير أو الشر ، من النعيم أو الجحيم ، من الرضا أو الندم.
- يقول
الرسول صلى الله عليه وسلم : « إن القبر
أول منازل الآخرة ، فإن نجا منه ، فما بعده أيسر منه ، وإن لم ينج منه فما بعده
أشدُّ منه ».
- ويقول صلى الله عليه وسلم عن فتنة القبر
: « إني أوحيَ إليَّ أنكم تُفتنون في قبوركم ».
- أيها المسلمون : استمعوا
إلى هذه الرواية العظيمة التي يخبر فيها الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإنسان ،
منذ لحظة خروج روحه حتى يرى مقعده من الجنة أو النار ، يقول : « إنَّ العبد المؤمن
إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا وإقبال من الآخرة نزلَ إليه من السماء ملائكة بيضُ
الوجوه ، كأن وجوههم الشمسُ ، معهم كفنٌ من أكفان الجنة ، وحنوط من حنوط الجنة ، حتى
يجلسوا منه مدَّ البصر ، ثم يجيء ملكُ الموت حتى يجلسَ عند رأسه فيقول : أيتها
النفس الطيبة ، اخرجي إلى مغفرةٍ من الله ورضوانِ ، فتخرجُ تسيلُ كما تسيلُ القطرةُ
مِنْ فِي السِّقاءِ فيأخذها ، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها ،
فيجعلوها في ذلك الكفن في ذلك الحنوط ، ويخرجُ منها كأطيبِ نفحة مِسك وجدت على وجه
الأرض ، فيصعدون بها فلا يمرون على ملأٍ من الملائكة إلا قالـوا : ما هذه الروحُ
الطيبـة ؟ فيقولـون : فلانُ بن فلانِ - بأحسنِ أسمائه التي كانوا يسمونه بها في
الدنيا - حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فُيفتحُ له ، فيُشِّيعهُ
من كل سماء مُقرَّبوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي إلى السماء السابعة ،
فيقول الله عز وجل : اكتبوا كتابَ عبدي في عليين ، وأعيدوا عبدي إلى الأرض ، فإني
منها خلقتهم وفيها أعيدُهم ومنها أخرجُهم تارة أخرى ، فتعادُ روحه فيأتيه ملكان فيجلسانه
فيقولون له : من ربك ؟ فيقول : ربي الله ، فيقولون له : ما دينك ؟ فيقول: ديني الإسلامُ
، فيقولون له : ما هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم ؟ فيقول: هو رسول الله ، فيقولان له
: وما علمُك ؟ فيقولُ : قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت ، فينادي منادٍ من السماء :
أن صدق فأفرشوه من الجنة ، وألبسوه من الجنة ، وافتحوا له باباً إلى الجنة ،
فيأتيه من روْحها وطيبها ، ويُفسحُ له في قبره مدَّ بصره ، ويأتيه رجلٌ حسنُ الوجه
، حسن الثياب ، طيبُ الريح فيقول : أبشر بالذي
يسرك ، هذا يومك الذي كنت توعدُ، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء
بالخير، فيقول : أنا عملك الصالح ، فيقول : يا رب ، أقمِ الساعة ، رب أقم الساعة ،
حتى أرجع
إلى أهلي ومالي ، وإن العبدَ الكافرَ إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال
من
الآخرة نزل إليه من السماء ملائكةٌ سودُ الوجوه، معهم المسوحُ فيجلسون منه مدَّ
البصرِ، ثم يجيء ملكُ الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة
، اخرُجي إلى سخطٍ من الله وغضبٍ، فيفرقُ في جسده فينتزعها كما ينَتزعُ السَّفودُ
من الصوف المبلولِ، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في
تلك المسوحِ، ويخرجُ منها كأنتنِ ريح جيفةٍ وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا
يمرون بها على ملأٍ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروحُ الخبيثُ ؟ فيقولون : فلانُ
بن فلان - بأقبح أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا - حتى ينتهـي بها إلى السـماء
الدنيـا ، فيسـتفتـحُ له فلا يفتح له، ثم قـرأ : } لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ { ، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجينِ في الأرض السفلى ، فتُطرح
روحه طرحاً ، فتُعاد ، روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانِه
فيقولان له : من ربك؟ فيقول: هاه ، هاه ، لا أدري ، فيقولان له : ما هذا الرجل الذي
بُعث فيكم؟ فيقول : هاه، هاه، لا أدري ، فينادي منادٍ من السماء : أن كذبَ عبدي ، فافرشوا
له من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حَرِّها وسمومها ، ويُضيَّقُ
عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ويأتيه رجلٌ قبيحُ الوجه ، قبيحُ الثياب ، منتن الريح،
فيقول :
أبشر بالذي يسوؤك ، هذا يومك الذي كنت توعدُ، فيقول : من أنت؟ فوجهُك الوجهُ الذي
يجيء
بالشرِ، فيقول : أنا عملك الخبيثُ، فيقول: رب، لا تُقمِ الساعة ».
- أيها المسلمون : إنها الحقائق الكبرى التي
تنتظرنا ، لقد مرَّ بها كلُّ من مات من أهلنا وأحبابنا ، وسوف نَمرُّ بها نحن ،
ولابدَّ .
-
فاستعينوا بالله ، وتعوَّذوا من عذاب القبر .
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : " يُثَبِّتُ
اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَفِي
الآخِرَةِ
وَيُضِلُّ
اللَّهُ
الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء" .
* * *
- أيها الإخوة : يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن عظيم فتنة
القبر : « ما من شيء لم أكن رأيته إلا رأيته في مقامي هذا ، حتى الجنة والنار ، وقد أُوحيَ إلىَّ أنكم تفتنون
في قبوركم مثل أو قريباً من فتنة المسيح الدجال » .
- ويقول أيضاً : « إن هذه الأمة تبتلى في قبورها
، فلولا أن تدافنوا لدعوت الله أن يُسمعَكُم من عذاب القبر الذي أسمع منه » .
- ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن هول القبـور : « ما رأيت منظراً قطُّ إلا والقبرُ أفظعُ منه ».
- أيها المسلمون : إن من رحمة الله بنا أن حجب عنا
أهوال عالم الغيب ، ولو اطلع الإنسان على شيء منها لفسدت عليه حياته ، وتعطَّلت أموره ، وما سعد بشيء ، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : « لو يعلم
المرء ما يأتيه بعد الموت : ما أكل أكلة ، ولا شَرِبَ شَرْبة : إلا وهو يبكي ، ويضرب
على صدره » .
- إن من
تمام نعيم المتنعمين في قبورهم ، ومن تمام عذاب المعذَّبين في قبورهم: أن تُعرض
عليهم مقاعدُهم من الجنة أو النار ، فيزداد أهل الإيمان سروراً وفرحاً ، ويزداد
أهل الفجور همَّاً وحزناً .
- يقول
الرسول صلى الله عليه وسلم: « إن أحدكم إذا مات عُرض عليه مقعده بالغداة والعشي ، إن كان من
أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، يُقال : هذا
مقعدُك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة » .
- أيها
المسلمون : إن المخرج من هذا الهول محصور في الإيمان الصادق والعمل الصالح ، فقد
جاء في الحديث : « إذا دخل الإنسان قبره حفَّ به عمله الصالح :
الصلاة والصيام، فيأتيه الملك من نحو الصلاة
فتردُّه، ومن نحو الصيام فيردُّه» .
- وإن مما يعصم من عذاب القبر الكف عن الغيبة
والنميمة ، والحرص على الطهارة من النجاسات ، وقراءة سورة الملك .
- واعلموا - أيها المسلمون - أن عذاب القبر
للمؤمنين تخفيف وتكفير للسيئات ، وهو على الكافرين مزيد عذاب ونكال بهم .
- اللهم إنا نعوذ بك من عذاب القبر ، وفتنة القبر
، ولا حول ولا قوة لنا إلا بك ، اللهم من كان من المؤمنين في عذاب فخفف عنه وارحمه
، ومن كان منهم في نعيم فزده من رحمتك وفضلك.