- أيها
المسلمون : تُخيِّم المادية المقيتةُ بظلالها السوداء القاتمة عَلَى حياة الإنسان
المعاصر ، وتُسبغ على حياته قسوة وغلظة وجفافاً.
- وتحاصره
مشاغل الدنيا وحاجاتها الكثيرة ، فلا يكاد يخرج من شأن إلا وقع فيما هو أشد ، يسير
في دائرة مفرغة لانهاية لها .
- لقد أغرقته
الحياة المادية بمشاغل لا حصر لها ، وأعمال لا تنتهي ، حتى إنه من فرط انشغاله لا
يلتفت إلى نفسه.
- لقد
شغلته وظيفته عن نفسه ، يعمل في الصباح والمساء ، بكلِّ جد ونشاط، يبتغي بذلك رضا
رؤسائه .
- ولقد
شغلته زوجته بطلباتها التي لا تنقطع ، وألهته بدلالها الذي لا ينتهي ، استهلكته في
خدمتها ورضاها .
- وأما
الأولاد فقد شغلوه بحاجاتهم الكثيرة ، فهذا يحتاج إلى من يراجع معه دروسه، وهذا
لابد أن يذهب به إلى الطبيب ، وهذا يطالب بالنزهة ، وهكذا .
- وأما
والداه ، فكلاهما في حاجة إلى رعايته ، وشيء من وقته يبذله في خدمتهما ، ورعاية
شؤونهما .
- وأما
الأقارب ، فهذا مريض لابد من زيارته ، وهذا زواج لابد من حضوره ، وهذا عزاء لابد
من مواساة أهله .
- وأما السيارة والشقة ، فكلاهما يحتاج إلى صيانة
، إضافة إلى المعاملات الحكومية التي تحتاج إلى مراجعة ومتابعة.
- فما أن
تحلَّ نهاية الشهر ، وينزل الراتب في الحساب ، حتى يبدأ الديَّانة بالخصم منه ،
أقساط وفواتير لا تنتهي .
- فإذا هو
في هذه الدوامة إلى الستين من عمره ، قد زوج الأولاد والبنات ، وتقاعد من عمله ،
يزعم أنه يتفرغ لنفسه .
- فإذا بأمراض العصر تحيط به : الضغط والسكري ،
والجلطات والهزال ، فإذا به يخوض دوامة جديدة من المشاغل المرضية والعلاجية.
- ينتقل من
مصحَّة إلى أخرى ، ومن طبيب إلى طبيب ، قد استهلك ما بقي من ثروته على صحته وعلاجه
.
- حتى إذا
أعياه المرض ، وأصبح طريح الفراش ، أسير المقعد المتحرك ، وقد خارت قواه عن القيام
بالأعمال ، لم يعد قادراً على شيء : حينها تعمل الذاكرة عملها في نفسه.
- فأخذ
يتذكر ماذا فعلت به الحياة المادية بمشاغلها ؟ كم من صلاة ضيعها ؟ وكم من جمعة
فوتها ؟
- لم يختم
المصحف في حياته إلا مرة أو مرتين ، لقد نسي نفسه فلم يحج ولم يعتمر ، حتى الزكاة
لا يدري كم بقيَ عليه منها ، لم يخرجه للمستحقين.
- وأما
رمضان فقد مرت عليه في شبابه أشهرٌ لم يصمها ، وأفطر أياماً بسبب العمل لم يقضها ،
وأما النذور فكثيرة لا يذكرها .
- كم مرة
حلف على زوجته بالطلاق ، وكم مرة ألقاه عليها ، ومع ذلك فهي لاتزال معه ، لم يسأل
، ولم يستفت .
- له رحم قد قطعها بسبب حطام الدنيا ، وله جار قد
هجره منذ سنوات طويلة ، لا يُلقي عليه حتى السلام .
- لقد ألهته الدنيا بمشاغلها ، وغرَّه الشباب بقوته
، فلم يستعدَّ لما أمامه من كرب الآخرة .
- كيف يستدرك ما فاته ؟ لقد خارت قواه عن القيام
بالأعمال الصالحة ، حتى الصلاة لا يستطيع أن يقوم لها .
- له أولاد لا يطاوعونه ، إذا أراد الصدقة
ثبَّطوه ، وإذا أراد أن يَقف شيئاً من أملاكه منعوه، لم يعد الأمر بيده .
- لقد فاته زمن الاختيار ، أما الآن فهو في زمن
الإجبار ، لا يشعر بمشاعره أحد ، ولا يحسُّ
بإحساسه أحد .
- لقد أصبح كالغريب بين أهله وأولاده وأحفاده ،
كالتائه في وسطهم ، إذا تكلَّموا لا يسمعهم لثقل سمعه ، وإذا تكلَّم لا يفهمونه
لثقل لسانه.
- ينتظر مودَّتهم ورحمتهم به ، وهم ينتظرون ساعته
التي يتخلَّصون فيها منه ، يتمنى ساعة من ساعات الشباب يعمل فيها لله تعالى .
- كيف يقدم على الآخرة بصحائف بلا أعمال ، وذنوب
بلا استغفار ، وحقوق بلا أداء .
- حتى إذا حانت ساعة الفراق ، فأدبرت الدنيا بملذاتها
، وأقبلت الآخرة بكرباتها : جاء الموت ، وخُتمت الصحائف، وقُضي الأمر .
- وصدق الشاعر إذ يقول :
لعمرك ما يُغنى الثراءُ ولا الغنى إذا
حَشْرجت يوماً وضاق بها الصدرُ
- وأصدق من هذا قول الله تعالى : " وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ
مِنْهُ تَحِيدُ "
.
- أيها الإخوة : هذا مصير كلِّ واحد منا ، إلا من
تخطَّفته المنايا قبل ذلك ، فلم يُمهل ليستدرك ما فاته ؟
- ليس من كبير ولا صغير ، ولا عظيم ولا حقير ،
ولا ذكر ولا أنثى إلا وينتظر ساعة مصرعه ، إن آجلاً أو عاجلاً .
- إلا أن العاقل يستفيد من فترة شبابه وقوته بعمل
الصالحات ، والإكثار من الطاعات ، وتجنُّب المحرمات .
- وهذا لا يتحقق حين يستسلم المسلم للحياة
المادية ، وللشواغل التي لاتنتهي ، فالإنسان كلَّما كبر زادت مشاغله .
- فالعاقل يقتطع وقتاً مِنْ ساعته ، ومن يومه ،
ومن شهره ، ومن سنته ، يقتطع وقتاً يجعله لله تعالى خالصاً ، قربة لله تعالى ، يتقرَّب
بها إليه في عمل صالح .
- يصلي أو يصوم ، يذكر الله تعالى ، يقرأ القرآن ،
يتصدق على المساكين ، يصل الأرحام ، يصلح بين اثنين ، ينصر مظلوماً .
- يعزم على ترك المعاصي ، فلا يعصي الله بلسانه ، ولا بنظره ، ولا بسمعه
، ولا يمنع حقوق الناس، فإذا قصَّر وأخطأ : عاد إلى ربه فتاب وأناب .
- إن أبواب الخير كثيرةٌ مشرعة ، وفضل الله واسع
، و ما من شيء يمنع الإنسان من الخير إلا شيطانه ، ونفسه الأمَّارة بالسوء .