- أيها
المسلمون : حينما يعرض أحدنا نفسه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يجد نفسه
بعيداً بُعداً شاسعاً عن المقام المطلوب ، والمعيار الصحيح.
- لقد
افتضحنا أمام موازين الكتاب ، ومعايير السنة ، حتى إن أحدنا لا يجد نفسه شيئاً ،
كأنه صورة بلا حقيقة ولا وزن .
- لقد وصف
الله في كتابه ، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم : أنموذج المؤمن الحق ، في
إيمانه وأخلاقه ، فأين نحن من هذا الأنموذج ؟.
- أيها
الإخوة : لقد عرض السلف الصالح أنفسهم على الكتاب والسنة ، فلم يجدوا أنفسهم شيئاً
، فماذا ترون يقول مَن بعدهم ، من أمثالنا وأضرابنا.
- إن
الموازين التي تُوزن بها أعمال أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، هي عين الموازين التي
تُوزن بها أعمال غيرهم من الناس.
- فأي مصيبة
تلحق أحدنا حين تثقل سيئاته، وتَخفُّ حسناته ، قد غلبت آحادُهُ عشراته ، فأي مصيبة
أشدُّ من هذه ؟
- إنه
الخزي الأكبر حينما يقف أحدنا يوم القيامة مثقلاً بالسيئات ، فقيراً من الحسنات ،
قد خاب سعيه ، وضاع جهده .
- ينظر عن
يمينه وعن يساره فلا يرى إلا قبيح أعماله ، قد أحاطت به سيئاته من كل مكان .
- وإذا
بالنار تلقاء وجهه ، تطلبه للعذاب ، وقد ملكها الغيظ من قبح صنيعه في الدنيا .
- يصيح أحدهم في موقف القيامة بالشفعاء ليشفعوا له
، فلا يجيبه أحد ، الكل قد خذله في يوم اضطراره .
- حتى سيد الخلق ، رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا يجيبه
إلا بما يزيد من ألمه وحسرته : «سحقاً سحقاً » ، « بعداً بعداً ».
- " فَمَا لَنَا
مِن شَافِعِينَ، وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ، فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ".
- " وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ
الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا
لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ
وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ ".
- أيها الإخوة : إنه موقف عصيب ، لا يأمنه أحد منا
، فمن هذا الذي يعتقد أنه ناجٍ يوم القيامة ؟ من يجرؤ على القول بسلامته ؟
- وإنما يرجو المؤمن رحمة ربه ، ويخاف أن تفوته ،
فالمؤمن يموت وهو متعلق بالرجاء ، يتمنى رحمة ربه ، ويخاف عذابه .
- إن الرجل
ليعمل الأعمال الصالحة الكثيرة ، حتى إذا لقيَ الله بها جعلها هباءً منثوراً ؛
لشيء ما بينه وبين الله .
- وإن الرجل ليسرف على نفسه في المعاصي ، فيلقى
الله بها ، فيغفرها له ، والله أعلم بعباده ، يفعل بهم ما يشاء.
- " وَلَوْ أَنَّ
لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ
جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا
لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ
يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا
وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا
بِهِ
يَسْتَهْزِئُون
".
- ولا يصح أن يفهم أحدنا : أن الأعمال الصالحة لا
تنفع أصحابها ، وأن السيئات لا تضرُّ أهلها ، فهذا خطأ فاحش.
- فقد تواترت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية :
على أن الله يثيب على الحسنات ، ويعاقب على السيئات.
- فهذا هو الأصل
الأصيل الذي قام عليه العــدل الإلهي، وجاءت الرسل ببيانه.
- " مَنْ عَمِلَ
صَالِحًا
فَلِنَفْسِهِ
وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ "
.
- " مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى
إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَـرٍ أَوْ أُنثَى وَهُـوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّـةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا
بِغَيْرِ حِسَابٍ " .
- " فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ".
- إنَّ
الله يُريد منا أن نحيا بين الخوف والرجاء ، ونخاف ذنوبنا مهما كانت صغيرة، ولا
نعتمد على أعمالنا مهما كانت عظيمة ، ونرجو عفو ربنا مهما عظمت ذُنوبنا ، فإن الله
يغفر الذنوب جميعاً.
- سألت الســيدة
عائشة رضي الله عنها رســول الله صلى الله عليه وسلم عن قـوله تعالى : " وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا
وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ "
، « هو الذي يسرق ويزني ويشرب
الخمر ، وهو يخاف الله عز وجل ؟ قال : لا يا بنت الصديق ، ولكنه الذي يصلي ويصوم
ويتصدق ، وهو يخاف الله عز وجل» ، وفي رواية : «ولكنهم الذين يُصلون ويصومون ويتصدقون
، وهم يخافون إلا يُتقبل منهم، أولئك يسارعون في الخيرات ».
* * *
- أيها
المسلمون : إن لقاء الله شيء عظيم ، وخطب جليل ، يُسأل فيه أحدنا عن عمره وشبابه
وعلمه وماله ، ما صنع في كل ذلك في حياته .
- يعيش
أحدهم دهره بأفكار مغلوطة ، يظن أن الله لابد أن يغفر له ؛ لأنه قام ببعض الأعمال
الصالحة ، أو لأنه يعيش في البلد الحرام ، أو لأنه من ذرية قوم صالحين ، أو لأنه
حفظ القرآن وتعلم العلم الشرعي ، وقد نسي هؤلاء أنه : " إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ "
، وهذا وصف يصعب أن يدَّعيه المسلم لنفسه ، وإنما يعمل الصالحات ، فيرجو ربه
ويخافه .
- وإنما يأمن عقوبة الله من لا خلاق له في الآخرة
، فقد كان السلف مع عظيم بلائهم في الإسلام : لا يزكُّون أنفسهم بل يخافون ولا
يأمنون .
- فهذا سيدُ الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تحكي عنه السيدة
عائشة رضي الله عنها تقول : « ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً
ضاحكاً - يعني مستغرقاً في الضحك - حتى أرى منه لهَوته - يعني أرى منه آخر حلقه – وإنما
كان يتبسَّم » .
- وهذه عائشة رضي الله عنها تقول : « والله لوددت
أني كنت نسياً منسياً »، يعني لا خُلقت ، ولا عرفت شيئاً.
- وكان عبد الله بن شداد رحمه الله ، يتقلَّب في
فراشه لا يأتيه النوم ، فيقول: « اللهم إن النار أذهبت مني النوم » ، فيقوم يصلي .
- وكان بعضهم يدخل على عمر بن عبد العزيز رحمه
الله فيراه ينتفض من شدة الخوف ، حتى قال الطبيب : « غلب على قلبه الخوف» .
- وكان عطاء السُّلمي رحمه الله من شدة خوفه لا
يسأل الله الجنة ، وإنما يسأله العفو ، وكان من شدَّة خوفه أنه نُسِّيَ القرآن .
- وكان سفيان الثوري رحمه الله كثير البكاء ، فسُئل
عن ذلك فقال: « أتخوَّف أن أكون في أم الكتاب شقيَّاً » .
- وكان إذا نام في بعض الأحيان يستيقظ مرعوباً ،
يصيح : « النار النار» .
- وكان علي بن الفُضيل بن عياض رحمهم الله من العُبَّاد
على نهج أبيه ، فبكى يوماً ، فقال له أبوه الفضيل : ما يبكيك ؟ قال : « أخاف ألا
تجمعنا القيامة »، يعني تفرق القيامة بينهما .
- لما حضرت الوفاة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله
في آخر أيامه ، وقد مرض مرض الموت : بال دماً ، فلما رآه الطبيب قَالَ : «هذا رجل
قد فتت الغم والخوف جوفه».
- وكان العابد أبو بكر سيِّد حمدُويه رحمه الله ،
لا يسند ظهره إذا جلس ، ولا يمد رجله هيبةً لله تعالى .
- يقول الجنيد رحمه الله: « إن كنت تأملُهُ ، فلا
تأمنُهُ » ، يعني إن كنت ترجو الله فلا تأمن من مكره .
- يقول الذهبي رحمه الله : « كلُّ من لم يخش أن
يكون في النار : فهو مغرور ، قد أمن مكر الله به » .
- اللهم نرجو رحمتك ، ونحشى عذابك ، ولا حول ولا
قوة إلا بك.