· قسَّم العلماء الوحي من عند الله إلى وحْييْن: وحيٌ يُتلى وهو القرآن الكريم , ووحيٌ لا يُتلى وهو السنة النبوية المطهرة.
· وقد وعد المولى عز وجل بحفظ كتابه, فلا يختلط بغيره ، ولا تلتبس به الألسنة , ولا يُهمل بعضــه: ) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (.
· وأما السنة المطهرة فقد كلَّف الله الأمة بحفظها لينالها فضل حفظ الدين ، فكان في الأمة الحفاظ, والنقاد, والشراح ، من رجال الحديث النبوي.
· وقد قيَّض الله تعالى رجالاً من كلِّ جيل لحفظ السنة ونقلها بأمانة ، من جيل إلى جيل.
· وقد كان الجيل الأول من الحفاظ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الأساس في حفظ السنة ونقلها, من أمثال: ابن عمر, وابن عباس, وابن مسعود, وعائشة ، رضي الله عنهم.
· فقد حفظوها ، وأتقنوا حفظها ، وأدَّوْها بأمانة لمن بعدهم.
· وقد تفاوت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفظهم للسنة تفاوتاً بيِّناً, فمنهم المكثر ومنهم المقل, فمنهم أصحاب الألوف و المئات ، ومنهم أصحاب العشرات , والآحاد , وهكذا يتفاوتون بحسب الصحبة, ودرجة الحفظ, وطول العمر, والجراءة في التحديث بمحفوظاتهم .
· وقد اتفق كلُّ من يُعتد بقوله من علماء الإسلام أن سيِّد الحفاظ في زمنه هو أبو هريرة, عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه.
· فقد قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن فتح خيبر ، قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بثلاث أو أربع سنين, ومع ذلك فقد روى أكثر من غيره ، روى أكثر من خمسة آلاف وثلاثمائة حديث.
· وسبب تفوقه هذا ، رغم قصر مدة ملازمته للرسول صلى الله عليه وسلم يرجع إلى أسباب منها:
· حرصه الشديد على ملازمة الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأحوال, حتى إنه يقول: »تبعت الرسول صلى الله عليه وسلم على شبع بطني«, يعني بقدر ما يسدُّ جوعه ، فلا زوجة له , ولا أولاد, ولا مال عنده.
· دعــوة الرسول صلى الله عليه وسلم له بالحفــظ, فقد دعا له فكان لا ينسى شيئاً سمعه.
· شدَّة ملاحظته, وسلامة ذهنه من الملهيات, وتفرُّغه للحفظ, حتى إنه كان يراجع الحديث كما يراجع أحدنا القرآن.
· إدراكه لكبار الصحابة ، فقد أخذ عنهم ما فاته من أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم من أول البعثة.
· كثرة أسئلته للرسول صلى الله عليه وسلم في مسائل العلم ، مثل حديث الشفاعة, فقد قال للرسول صلى الله عليه وسلم: »يارسول الله من أســـعد الناس بشفاعتــك ؟ قال: لقد ظننــت يا أبا هريرة لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أوَّلَ منك , لما رأيت من حرصك على الحديث«.
· ومن أسباب تفوقه أيضاً طول بقائه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد عاش بعده سبعاً وأربعين سنة ، يعلِّم الناس ويحدِّثهم.
· إلى جانب جرأته في التَّحديث بمحفوظاته ؛ لما يعلم من إتقانه وحفظه, فقد كان بعض الصحابة يتورع في الحديث خوفاً من الخطأ.
· ومما يدل على شدة إتقانه لما ينسبه للرسول صلى الله عليه وسلم: فقد دعاه مروان بن الحكم مرة ، وسأله عن أحاديث فأخبره ،ووضع خلف مجلسه غلاماً يكتب كلامه ، وبعد سنة دعاه مرَّة أخرى وسأله نفس الأسئلة ، فجاء جوابه كما هو دون تحريف أو تغيير.
· وقد كان رضي الله عنه من أشد الناس فقراً، فقد كان من أهل الصُّفَّة الفقراء ، قال عن نفسه: »كنت في سبعين رجلاً من أصحاب الصفة، ما منهم رجل عليه رداء ، إلا بردة أو كساء ، قد ربطوها في أعناقهم«.
· وكان رضي الله عنه يصوم ، ثم لا يجد طعاماً يفطر عليه، وكان من عزَّة نفسه لا يطلب أحداً ، وإنما كان يتحدَّث مع بعض الصحابة في موضوعات من العلم ، فإن فطن له ودعاه للطعام ذهب معه، وإذا لم يفطن له لم يخبره عن حاجته.
· وقد كان من شدَّة ما ينزل به من الجوع يصرع بين بيت عائشة رضي الله عنها ومنبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فيأتي الغريب يظنه مجنوناً، فيجلس على صدره، ويضع رجله على رقبته ليسكن اضطرابه، كما يُفعل بالمهووسين.
· يقول عن موقف من مواقف فقره : »كانت لي خمس عشرة تمرة، فأفطرت على خمس وتسحَّرت بخمس، وأبقيت خمساً لفطري« .
· ذهب مرة مع بعض أهل الصفَّـة للرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد أنهكهم الجوع ، فأعطى الرسول صلى الله عليه وسلم كلَّ رجل منهم تمرتين فأكلــوا ، إلا أبو هريرة أكل تمرة وأبقى تمرة ، فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال : » أبقيتها لأمي «، وكان عظيم البرِّ بها.
· وكان رضي الله عنه شديد التواضع ، يداعب الصبيان في الطريق، ويلاطف الناس، وقد ولاه مروان بن الحكم المدينة ، فكان يحمل الحطب ويقول افسحوا للأمير ، وكان يقول: »نشأت يتيماً ، وهاجرت مسكيناً ، وكنت أجيراً لابنة غزوان بطعام بطني وحمل قدمي، أحدو بهم إذا ركبوا, وأحتطب إذا نزلوا, فالحمد لله الذي جعل الدين قواماً, وجعل أبا هريرة إماماً«.
· وكان كثير العبادة والذكر, يتقاسم هو وزوجته وخادمته العبادة طَوال الليل, وكان له حبل فيه ألفا عقدة يسبح به.
· وكان من ورعه أن له خادمة مملوكة زنجية لا تحسن شيئاً , فرفع السوط مرة ليضربها فلم يفعل وقال » :لولا القصاص لأغشيك به, ولكن سأبيعك ممن يوفيني ثمنك , اذهبي فأنت لله« ، يعني أعتقها لوجه الله تعالى .
^ ^ ^
· كان رضي الله عنه كثيراً ما يدعو: »اللهم لا تدركني سنة الستين«، فمات قبلها، دخل عليه أبو سلمة رضي الله عنه يدعو له عند موته، فقال: »اللهم لا ترجعها ، ثم قال : يا أبا سلمة يوشك أن يأتي على الناس زمان يكون الموت أحبَّ إلى أحدهم من الذهب الأحمر«.
· ولما شعر رضي الله عنــه بالمــوت بكى ، فقيل : ما يبكيك ؟ قال: »ما أبكي على دنياكم هذه, ولكن على بعد سفري ، وقلَّة زادي«.
· اللهم ارحم أبا هريرة ، وارض عنه ، وألحقنا به في الصالحين.