· يحتل القصص القرآني ساحة كبيرة من كتاب الله عز وجل, فقد قصَّ الله علينا العديد من أخبار وأحوال السابقين.
· وما ذلك إلا لما في هذه القصص من الأثر الإيماني والأخلاقي في السامعين.
· ومن المعلوم أن النفس الإنسانية تميل إلى القصة وتحبُّها, وتجد فيها نموذج التطبيق للعقيدة والأخلاق.
· وتعتبر القصة في منهج التربية الإسلامية أسلوباً من أساليب التربية, فقد تربى عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام.
· ومن هذه القصص التي أوردها القرآن الكريم ، وذكرتها السنة المطهرة: قصة سيدنا موسى مع الخضر عليهما السلام.
· وكان مبدأ هذه القصة حين قام موسى يوماً يعظ قومه ويُعلمهم, فوعظهم موعظة بليغة أبكت القوم ، وأثَّرت فيهم.
· ولما انتهى موسى من موعظته قام له رجل من القوم فقال: »هل تعلم أحداً أعلم منك ؟ فقال موسى : لا «, وكان ينبغي أن يردَّ موسى العلم لله تعالى , فأوحى الله إليه : » بل عبدنا الخضر «, فطلب موسى السبيل إليه , وعلامةً على مكانه.
· فحدَّد الله له مجمع البحرين, وجعل علامة موقعه: حياة الحوت، وانطلاقه في البحر.
· فعزم موسى على ركوب البحر وتكبُّد المشاق في ذلك , واستعان بفتاه يوشع بن نون على هذا السفر الشاق.
· فلما بلغا المكان المطلوب: اضطرب الحوت الميت, وانبعثت فيه الحياة, وقفز في البحر, مُحدثاً علامة في الماء، فكانت علامة على موضع الخضر.
· فنزل موسى إلى الموضع ليلقى الخضر ، فإذا بالخضر مستلقٍ على صخرة قد تسجَّى بثوب, فسلم عليه وتعارفا.
· فتأدب موسى في طلب مرافقته: ) هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا(.
· فأخبر الخضر موسى أنه لا يستطيع أن يصبر على هذه المرافقة, فلما أظهر الجَلَدَ عليها: اشترط الخضر عليه أن لا يسأله عن شيء من غرائب سلوكه، فوافق موسى على الشرط.
· كانت أوَّل غرائب الخضر مع موسى: خرقُ السفينة, وقد كانت لمساكين يعملون على متنها في البحر , فقد أكرموا الخضر وموسى بركوبها دون أجر ، ومع ذلك يقوم الخضر بإتلاف بعض أجزائها.
· فإذا بالخضر ينزع لوحاً من السفينة يفسدها, وإذا بموسى ينطلق ينكر عليه هذا الفعل , ثم يذكِّره الخضر بالعهد الأول ، فيتذكر موسى ويعتذر للخضر ، إلا أنه يبقى في نفسه أنه سلوك مشين.
· وأما الغريبة الثانية من الخضر أنه لقي غلاماً في الطريق فأخذه فقتله, فلم يحتمل موسى حتى أنكر عليه, فذكره بالعهد، فاعتذر له ، وأخذ على نفسه العهد بعدم سؤاله مرة أخرى.
· أما الغريبة الثالثة فموقف الخضر من بخلاء أهل القرية حين أبوْا أن يُطعموهم, ومع ذلك يُصلح الخضر لهم جداراً يريد أن ينقضَّ.
· فلم يتحمَّل موسى أن اقترح على الخضر أن يأخذ على إصلاح الجدار أجراً, فكانت هذه الثالثة سبب الفراق بينهما.
· لم يكن الخضر ليترك موسى في هذه الحيرة العظيمة ، ضمن هذه المواقف الثلاثة الغريبة ، حتى شرع في بيان الحِكم التي من أجلها فعل الخضر ما فعل.
· فأما خرقُ السفينة فكانت الحكمة منه تشويهها حتى يزهد فيها الملك المغتصب، الذي سوف تمر السفينة بساحله ، وفي هذا مصلحة للمساكين أصحاب السفينة.
· وأما قتلُ الغلام فكانت الحكمة منه حفظ والديه من أن يضلَّهما بكفره, فقد طبع الغلام يوم طبع كافراً، ففي قتله مصلحة للوالدين، وحفظ لهما من أذاه.
· وأما إصلاح جدار أهل القرية البخلاء فكانت الحكمة منه حفظ كنز غلامين يتيمين من تسلُّط بخلاء القرية ، كرامة لجدٍ لهما كان صالحاً ، وفي هذا مصلحة واضحة في حفظ مال الغلامين .
· ثم علَّل الخضر أعماله هذه بأنَّه وحيٌ من عند الله, وليست من عند نفسه, ) وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي (.
· وعندها ارتاحت نفس موسى ، وسكنت إثارته ، إلا أنه فاتته مرافقة الخضر بعد هذه المواقف الثلاثة.
· وقيل إن الخضر أوصى موسى عند الفراق فقال: »كن بسَّاماً ولا تكن ضحَّاكاً, ودع اللجاجة, ولا تمشِ في غير حاجة, ولا تعبْ على الخطَّائين خطاياهم (يعني لا تشْمت بهم), وابكِ على خطيئتك يا ابن عمران«.
^ ^ ^
· أيها المسلمون : إن الأصل في إيراد مثل هذه القصص هو أخذ الحكمة والعبرة ، وليست مجرَّد سرد القصص: ) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأوْلِي الأَلْبَابِ (.
· ومن الحكم والتوجيهات التي يمكن استخلاصها من هذه القصة العظيمة ما يلي :
· لا ينبغي أن يتكلَّم الإنسان في شيء لا يعلمه, فقد عاتب الله موسى حين نسب إلى نفسه أنـَّه أعلم الناس.
· العلم المطلق لله تعالى, لا يحيط أحد بعلمه, وإنما يتفضل سبحانه وتعالى على بعض عباده المؤمنين بكشف بعض العلوم.
· ليس أحدٌ من الناس يحيط بكلِّ العلوم ، بل لابد أن يخفى عليه بعضها.
· يجوز أخذ العلم من المفضول, كما أخذ موسى عن الخضر, وموسى أفضل منه.
· لابد من احتمال المشقَّة في طلب العلم, والسفر لأجله ، كما سافر موسى إلى الخضر عليهما السلام , وسافر جابر بن عبد الله إلى عبد الله ابن أنيس رضي الله عنهم شهراً لحديث واحد ، وسافر سعيد بن المسيِّب الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد ، وهكذا السلف الصالح.
· طلب الزيادة في العلم وعدم الاكتفاء, فالعلم لا منتهى له إلا الموت, وموسى لم يكن جاهلاً ، ومع هذا سافر إلى الخضر.
· الاستعانة في الأسفار بالإخوان والرفقاء الصالحين, فقد استعان موسى بفتاه: يوشع بن نون.
· لابد من الصبر على المشايخ ؛ فإن إخراج العلم من أهله عسير ، وكثيراً ما يفوت العلم بالعجلة ؛ لهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: »ودِدْنا أن موسى كان صبر فقصَّ الله علينا من خبرهما«.
· لا يسع الصالحين السكوتُ عن المنكرات حتى وإن صدرت عن الفضلاء ، ولهذا أنكر موسى على الخضر بعض أفعاله التي في ظاهرها منكرة ، وهذا واجبه ، فشريعته الموسوية لا ترضى بمثل هذا.
· السعي في الوقوف على الحكم من التشريعات الربانية ؛ لمزيد قناعة وإيمان بها ؛ فإن الوقوف على الحكمة يزيد من القناعة بالحكم .
· الله صاحب الحق المطلق ، يتصرف في ملكه كيف يشاء ؛ ولهذا قال الخضر: ) وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي (.