· يحتل القصص القرآني جزءاً كبيراً من سور القرآن الكريم, وما ذاك إلا لأهمية هذه القصص في تربية الإنسان تربية إسلامية.
· ومن أجمل القصص التي يعرضها القرآن الكريم قصة نبي الله يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم, الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم, عليهم جميعاً الصلاة والسلام.
· وتبدأ حداث هذه القصة المثيرة حين رأى يعقوب على ولده يوسف معالم النبوة وإشاراتها , فانشغل به وأحبَّه حباً عظيماً, فهو وارث النبوة من بعده.
· وتتوَّج هذا الحبُّ والميل بالرؤية التي رآها يوسف, حين قصَّها على أبيه في السِّر, فحذَّره من إخبار إخوته بها, حذراً من الحسد, وإثارة الضغائن, ولا سيما أن يوسف من أمٍ أخرى.
· وهكذا العاقل لا يُخبر بالرؤيا إلا لمحب, فإن كلَّ ذي نعمة محسود, فلا بأس من إخفاء النعمة عن عين الحاسد والكاره.
· ولعل خبر الرؤية وصل إلى إخوة يوسف فازدادوا له بغضاً وحسداً, وعزموا على التخلُّص منه, إما بالقتل أو النفي إلى أرض مجهولة.
· وسوَّل لهم الشيطان أنهم بعد هذه الجريمة يتوبون إلى الله, ويصبحون قوماً صالحين, وهكذا الشيطان يُمنِّي العصاة بالتوبة والإنابة, ثم
لا يتوبون حتى الموت.
· ثم تنتهي مؤامرة الإخوة بوضعه في بئر تمر به القوافل, ويُلتقط بالفعل, ويُسافر به إلى مصر, ليبدأ هذا الطفل الصغير, قليل الخبرة, حياة جديدةً , في أرض مجهولة.
· وأما الأب المسكين الشغوف بولده, فيُسكَّن بأنَّه خطأ غير مقصود, قضاء وقدر, ثم يُيأَّس بإحضار قميص يوسف سليماً, إلا أنه ملطَّخ بالدم.
· ويفهم الأب الكريم المؤامرة: ) بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا (, ثم يتذرَّع بالصبر وليس له إلا الصبر: ) فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (.
· ثم تتوالى ألطاف الله تعالى بهذا الطفل الصغير, وتحوطه رحمته وعنايته ليتربى في أعزِّ بيت في مصر: ) أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا (.
· ولما شبَّ الغلام, وبلغ مبلغ الرجال: آتاه الله الحكمة والعلم, وظهرت عليه معالم الرجولة ونضارة الشباب, مع مزيد من الحسن والبهاء والجمال اللائق بالرجال, كأحسن ما يكون.
· وهنا تبدأ بيوسف محنة جديدة, وبلاءٌ ولكن من نوع آخر, فهذه امرأة العزيز بعد أن اتخذته ولداً تربيه, ها هي تريد الأن أن تتخذه عشيقاً تناجيه, لقد اشتهته شهوة النساء للرجال.
· فبدأت معه بالتلميح دون التصريح, وبالإشارة دون العبارة, حتى إذا لم يلتفت إليها لعظيم خلقه, لم تجد بُداً من صريح الفعل والعبارة:
) وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ (.
· فحاول يوسف في أوَّل الأمر أن يُقنعها بخطــورة هذا الأمــر, وأنَّه لا يمكن أن يخون سيده, فما كان منها إلا أن همَّت به تجذبه إليها, وهمَّ هو بها أيضاً يدفعها عن نفسه ويهرب.
· فالهرب هو الموقف السليم في مثل هذا الظرف الحرج , فلو تركها حتى تشقَّ قميصه من قُبل لاتُّهم, ولو ضربها أيضاً لاتُّهم, ولكن كانت السلامة في الهروب, فشقَّت قميصه من دبر, حين أرادت منعه من الهروب.
· ثم ينتهي هذا الموقف العصيب بمثول الجميع أمام العزيز وشاهد من أهلها, ويجري التحقيق السريع, وتظهر براءة يوسف كالشمس, ومع ذلك سُجن, للمحافظة على كرامة العزيز ، وسمعة أسرته.
· وهكذا الظلم يقع على الضعيف, رغبة في ستر الموضوع المُخجل, وعدم إشاعة الخبر المخزي, دون أن يتوجَّه العزيز بعقوبة زاجرة لزوجته الآثمة الـمُتعشِّقة.
· وهكذا المجتمعات المترفة الناعمة يقل فيها الحياء, وتضعف فيها الغيرة على الأعراض والشرف.
· ثم يشيع خبر المرأة مع يوسف السلام بين جمع من النساء المترفات في المدينة, كما هي عادة الطبقات الراقية المترفة الفارغة ، فتدعوهن لتريهن من جمال يوسف وحســنه ما لا صبر لهن عليه ، فيعذرْنها في قبيح سلوكها ، وفرط عشقها.
· فما أن دخل عليهن يوسف عليه السلام حتى فُتنَّ به, وقطَّعن أيديهن, وأخذن يهدِّدنه, ويتوعَّدنه, إلا نزل عند رغبة سيدته, هو يستعصم بالله ، ويتعلَّق بحبله المتين ، ويدافع الطبيعة الفطرية الغريزية في كيانه.
· وعندها ، وبعد أن كثر الحديث في هذا الموضوع الشائن : قرروا سجنه, ليكفَّ الناس عن الحديث وينسوه , وهنا يبدأ يوسف في السجن مرحلة جديدة من الابتلاء والامتحان.
· وقد كان في سجنه رحيماً عطوفاً، يُوسِّع لغيره , ويسهر على المريض, ويجمع للمسكين, ويدعو إلى الله, حتى عُرف بالخير, وهكذا أهل الخير في كلِّ مكان ، لا يحول بينهم وبين الدعوة إلى الله شيء، مهما كانت الظروف.
· فيشتهر يوسف بين السجناء بتعبير الرؤيا, فإذا بأحد السجناء ممن كان معه في السجن يصبح نديماً للملك, الذي يرى رؤيا تُحيِّره وتُثيره.
· حتى إذا عَجَزَ الجميع عن تأويلها رجعت إلى يوسف في سجنه, فأوَّلها كأحسن ما يكون التأويــل , فيطلبــه الملك فيأبى عليه , ولا يخرج إلا بعد إعلان براءته, وبيان سلامة موقفه.
· وبالفعل يُحقِّق الملك في الأمر من جديد ، وتعترف امرأة العزيز ومن معها من النسوة بخطئهن وبراءة يوسف , ويخرج يوسف من السجن إلى الوزارة ، من الذل إلى الكرامة ، ومن الضيق إلى السعة: )إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (.
· إنها سنة الله في الصالحين المصلحين, الثابتين على المبادئ, يُبتلون ويُفتنون, ثم يمكِّن الله لهم في الأرض: )وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْـهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ(.
^ ^ ^
· ولم تنته قصة يوسف عليه السلام عند هذا الحد, بل يتوجَّه السياق القرآني لتصفية الحساب مع من ظلم يوسف في أول الأمر, وكان سبباً في إبعاده وحرمانه، وتبدأ أزمتهم بالقحط.
· قدم إخوة يوسف عليه السلام من الشام يطلبون المؤنة من الطعام, فيحتال عليهم يوسف ليأتوا بأخيهم بنيامين.
· فأتوا به بالفعل, فاحتال عليهم حيلة لطيفة ليبقيه معه تمهيداً لجمع الشمل, وتأديباً لإخوته, وإحراجاً لهم أمام أبيهم.
· فجاءوا إلى أبيهم يعتذرون, فلم يقبل منهم , فهم ليسوا موقع ثقته , إلا أنَّه دبَّ في نفسه أنها بداية الانفراج, وجمع الشمل, وما كان الله ليجمع على يعقوب عليه السلام الأحزان من كلِّ جانب: ) يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُــواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (.
· وبالفعل يعودون إلى مصر, ويدخلون على يوسف, وقد بلغ منهم الهمُّ والجهد والألم غايته, فيكشف يوسف حينئذٍ عن شخصيته: ) أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا (.
· فإذا بالقميص مرة أخرى, فأما القميص الأول فلإخبار يعقوب عليه السلام بموته فيذهب بصره, وأما القميص الثاني فلإخباره بحياته فيعود إليه بصره من جديد.
· فما أن يتحرك الركب بالقميص من مصر, حتى تصل رائحته إلى الشام: ) إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ (, نعم إنها ريح يوسف بالفعل ، يتلمَّسها القلب الحاني الشغوف بولده ، الذي مازال يعيش على أمل لقياه سنوات طويلة.
· فما هي إلا أيام حتى يلامس ذلك القميص وجه يعقوب فيعود بصيراً, ثم يُحمل مع أهله إلى مصر, ويدخل على يوسف, ويخرُّوا جميعهم له سجداً، على عادة كانت فيهم للاحترام والإكرام ، وليست للعبادة.
· وتتحقق الرؤيا كأصدق ما يكون, ويجتمع الشمل, ولم يبق ليوسف بعد هذه السـعادة العظيمة إلا لقيا الله تعالى ، فليس شيء يغني عنها: ) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (.