· تتفاقم في حياة المسلمين مظاهر الإفراط والتفريط, والغلو والتقصير, بعيداً عن حدِّ الاعتدال المشروع.
· فمن المسلمين من يأخذ جانب الغلو والإفراط والتعمق, إلى حدٍ قد يخرجه عن أصل الدين إلى الضلال والضياع.
· ومن المسلمين من يأخذ بجانب التفريط والتقصير والتفلُّت, إلى حدٍ قد يخرجه من الدين إلى اللادينية والإلحاد.
· وكلاهما مذموم قبيح, والشيطان لا يبالي بأيِّهما ظفر من المسلم, بالغلو أو التقصير, إلا أن الغلو أخبث؛ وذلك لارتباطه في الغالب بالبدعة التي لا يتوب منها صاحبها، كالذي يُغالي في تعظيم القبور، وسؤال أصحابها، ويظنُّ أن هذه قربة: كيف له أن يتوب ؟ والذي يقتل المسلــمين ويظنُّ أن هذا جهادٌ في سبيل الله: كيف له أن يتوب ؟
· في حين أن شارب الخمر, والزاني يعلم أنه مقصِّر في جنب الله ، ويشعر بالإثم, ولعله أن يتوب, ولهذا يقترن في الغالب التفريط في الالتزامات الشرعية بالشعور بالإثم والتقصير، ويقترن بالبدعة الشعور بالعلو والاستكبار.
· ولهذا شدَّد الرسول صلى الله عليه وسلم في قضية الغلو، وحذَّر منها، وقال في شأن المتعمِّقين: » هلك المتنطِّعون « ، قالها ثلاثاً.
· وقال في المغالين في شخصه الكريم : » لا تطروني كما أطرت النصارى ابنَ مريم, فإنما أنا عبده, فقولوا عبد الله ورسولهُ «.
· وقال في المتعمِّقين في العبادة على غير بصيرة: »إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق, ولا تبغِّض إلى نفسك عبادة الله «.
· وقال أيضاً: » إن الدين يُسر، ولن يشادَّ الدين أحدٌ إلا غلبه, فسددوا وقاربوا وأبشروا «.
· وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحذر من التعمُّق في المسائل العلمية على غير بصيرة فقال: »إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً : من سأل عن شيء لم يُحرَّم على المسلمين, فحُرِّم عليهم من أجل مسألته«, ولما سُئل عن فريضة الحج : أفي كلِّ عام ؟ قال: »لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم, ذروني ما تركتكم, فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم «.
· وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في عقوبة الغلاة: »صنفان من أمتي لا تنالُهما شفاعتي: سلطان غشوم, وغالٍ في الدين، يشهد عليهم، ويبرأ منهم«.
· ولما التقط جمرات العقبة ليلة مزدلفة في حجة الوداع قال: » بأمثال هؤلاء، وإيَّاكم والغلو في الدين, فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين «.
· وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد هلك كثير من السابقين بالغلو, فقوم نوح عليه السلام هلكوا بتعظيم الصالحين، والمغالاة في شأنهم، وصنعوا لهم التماثيل حتى عبدوها.
· واليهود تشدَّدوا، فشدد الله عليهم, ولما أُمروا بذبح بقرة, تشدَّدوا وتعمَّقوا, حتى لم يعد يصلح للذبح إلا بقرة واحدة بعينها.
· والنصارى غلوا في عيسى عليه السلام ، حتى جعلوه إلهاً من دون الله, ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: »ألا إنَّ من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد, إني أنهاكم عن ذلك«.
· وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقظاً لمظاهر الغلو في بعض أصحابه, فما أن يرى أو يسمع بشيءٍ من ذلك إلا ردَّه, ونهى عنه وبيَّنه.
· فقد رأى مرَّة رجــلاً قد نذر أن يقوم ولا يقعـد، ولا يســتظل، ولا يتكلَّم، ويصوم, فقال: » مره فليتكلَّم، وليستظل، وليقعُد، وليتمَّ صومه «.
· ولما رأى آخر قد نذر أن يمشي ولا يركب، وقد أهلك نفسه قال: »إن الله عن تعذيب هذا نفسَهُ لغني, وأمره أن يركب«.
· ولما نذرت أخت عتبة بن عامر رضي الله عنهما أن تحجَّ ماشـيةً قال: » لتمشِ ولتركب «.
· ودخل المسجد مرَّة فوجد حبلاً ممدوداً بين ساريتين، فسأل عنه فقيل: » حبل لزينب، إذا فترت في صلاتها تعلَّقت به، فقال: حُلُّوه، ليصل أحدكم نشاطه, فإذا فتر فليقعد«.
· ولما رأى رجلاً قد أهلكه الصيام في السفر قال: »ليس من البر أن تصوموا في السفر«.
· وكان يقول للذين لا يقبلون رخصة الله وهدايته: »من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثلُ جبال عرفة«.
· ولما تقالَّ بعضهم عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم لكونه قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخَّر , وحرَّموا على أنفسهم الزواج واللحم والنوم مع سرد الصيام، قال الرسول صلى الله عليه وسلم عندها : » ما بال أقوام قالوا : كذا وكذا ؟ ولكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء, فمن رغب عن سنتي فليس مني«.
· وهكذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد الشارد عن سنته, ويصحح المسار, وليس ذلك تزهيداً منه في العبادة ، ولكن خشية الإملال ، والوقوع في الإفراط.
· اللهم نعوذ بك من الغلو, اللهم يسِّرنا لليسرى, وجنِّبنا العُسْرى, برحمتك يا أرحم الراحمين.
^ ^ ^
· يغلب على قضايا الغلو في زماننا الجانب الاعتقادي والفكري, وقد غلب عليها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم الجانب التعبدي والتنسكي.
· فمن مظاهر الغلو في زماننا: الغلو في بعض المسائل الفقهية الاجتهادية, وذم الآخرين الذين يخالفونها، دون مراعاة لمبدأ الخلاف الفقهي الاجتهادي، الذي أقرَّته الشريعة.
· الجرأة على علماء السلف ممن وقع في خطأ اجتهادي في بعض المسائل العلمية، وعدم مراعاة مكانته في الإسلام ، وعظيم اجتهاده وجهاده.
· الغلو في ذم العصاة وأهل الكبائر والغلطة عليهم, وتقنيطهم من رحمة الله، وإغلاق باب التوبة في وجوههم.
· عدم التفريق بين الكفر الأكبر والكفر الأصغر, فالأكبر هو المخرج من الملَّة، وهذا حين يأتي المسلم بعقيدة أو عمل لا يحتمل إلا الكفر, مثل سب الدين, أو الاستهزاء بشعائره العظيمة، أو عبادة الأصنام, أو اسـتحلال ما أجمع المسلمــون على تحريمه, أو تحريم ما أجمع المسلمون على إباحته وهكذا مما هو كفر واضح لا لبس فيه.
· أما ما هو دون ذلك من المعاصي : الكبائر والصغائر, فهي لا تخرج المسلم من الملَّة, كشرب الخمر والزنى وأكل الربا والغيبة والنميمة والكذب والغش والرشوة ونحوها، فهذه لا تخرج المسلم عن دينه، إلا حين يستحلها, وهذا لا يكون من مسلم يخشى الله تعالى.