الخطبة الأولى:
الحمدُ لله النَّاصِرِ لأوليائِهِ, القاهِرِ لأعدائِهِ, وعدَ بالنصر المؤمنين, وتوعَّدَ بالهزيمةِ المعاندينَ, يُعزُّ من يشاءُ ويذل من يشاء, بيده الخير, يمنَحُهُ من يشاء فضلاً, ويمنَعُهُ من يشاء عدلاً, لا يُسألَ عما يفعلُ وهم يُسألون. أرسلَ رسولَهُ محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى والحق, وأيَّدَهُ بالمعجزات, والآياتِ الباهرات, فأظهر به الدينَ, وأقامَ به العدلَ, حتى عمَّ الخيرُ الدنيا, ودخلَ الناسُ في الدينِ أفواجاً, فتنوَّرت القلوبُ بعد ظلمةٍ, وأبصرتِ العيونُ بعد عمىً, فعادَ الناسُ مؤمنينَ بعد كفرٍ, وإخواناً بعد عداوةٍ, وأمَّةً بعد فُرقـة. فكانَ الناسُ مع هذا الدينِ على ثلاثةِ أصناف: إما مؤمنٌ بهذا الدين عزيزٌ, وإما كافرٌ به ذليلٌ, وإما منافق حقير. فأمَّا المؤمنُ فمجاهدٌ, أو عالمٌ, أو صانعٌ, أو أجيرٌ. وأمَّا الكافُر فإمَّا محاربٌ خائفٌ, أو مقهورٌ يدفَعُ الجزية, أو مهادِنٌ ينتظر أجلَهُ. وأما المنافقُ فمريضٌ ضاقت عليه السبل, فلا يعرفُ لنفسِهِ الحقيرةِ موقعاً بين الخلق, فلا هو كافرٌ قد أظهرَ صفحَتَهُ, ولا هو مؤمنٌ قد طَهَّرَ سريرتَهُ, فلا هو إلى هؤلاءِ ولا إلى هؤلاءِ, مثلُهُ كمثل الشاة العائرة بين غنمين, تصيح إلى هذه مرةً وإلى هذهِ مرةً. فإذا كان الإسلامُ في قوةٍ, وجندُهُ في نصر: أظهرَ الإيمانَ الخالصَ, وتحذلَقَ بالإسلام, وإذا كان في ضعفٍ أظهر من أمراضِ قلبِهِ, وظلمَةِ روحِهِ: ما يُؤلمُ بِهِ المؤمنينَ, ويُسعِدُ به الكافرين.
أيها الإخوة المسلمون: إنَّ قصةَ هذا الدينِ بدأت في ضعفٍ وغربَةٍ, وقلةٍ في العددِ والعُدَّةِ, حتى إنه لم يُؤمن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أولِ أمرِ الدعوةِ إلا القليل, فمازالَ اللهُ تعالى يكلأُ تلكَ العِصَابةَ المؤمنةَ برعايته, ويحفَظُهَا بحفظِهِ, فينقلها من طورٍ إلى طور, ومن حالٍ إلى حال, حتى ما مضى على الدعوةِ نحوٌ من ثلاثينَ عاماً حتى ملكَ المسلمونَ الدنيا, وفتحوا الأمصار. فازدهرت بهذا الدين الحياة, وتنعَّمَ الناسُ بعدلِ الإسلام. فوصلَ المسلمون بفضل الله تعالى إلى القمَّةِ في كلِّ ميادينِ الدنيا, وبلغوا النهايةَ في كلِّ شؤونِ الحياة, فعلَّموا العالمَ كيفَ يُعْبَدُ اللهُ تعالى, وكيف تُعمَّرُ الأرض. حتى إذا وصلوا في المجدِ المنتهى, وبلغوا في الأمل المُرْتجى, وتحقَّقَ لهم وعدُ الله تعالى بالنصرِ والتمكينِ: دبَّ فيهم داءُ الأمم, فضَعُفَ الإيمانُ, وقلَّ اليقينُ, وظهرَ الشُّحُ, وانتشرت البدعُ, وعمَّت الخرافاتُ, وكثُرت المعاصي, وتجاهرَ الناسُ بالمنكرات. فمازالت الأمَّةُ تنحدرُ من قمَّتِها السامِقَةِ إلى السفوحِ الهاوية, تنتقِلُ من طورٍ إلى طور, ومن حالٍ إلى حال, فضعفٌ بعد قوة, وسَقَمٌ بعد عافية, وجهلٌ بعد علم, وخَوَرٌ بعد عزم, حتى ما عادَ للأمة جانبٌ من جوانب دينها ودنياها إلا دَخَلَهُ النقصُ, ونخَرَهُ الزمنُ. حتى جاءَ على الأمَّة زمانٌ أعرضت فيه عن كتابِ ربِّها إلى كُتُبِ أعدائِها, ونبذت شريعتَهَا إلى قوانينِ غيرِها, وهجرت ثقافتها إلى ثقافة غيرها, ورفضت تراثها إلى تراث غيرها, حتى لم يعد لها من معالِمِ دينها وتاريخِهَا إلا الصورُ الكاذبةُ, والمظاهِرُ الخاويةُ, يظنونَ أنهم على شـيء, وليســـوا على شيء. فلم يعدْ همُّ الواحدِ منهم إلا إشباعَ بطنِهِ, وقضاءَ وطَرِهِ, وأمَّا الالتزاماتُ الدينيةُ, والواجباتُ الشرعيةُ فآخرُ اهتماماته.
أيها الإخوة: لما وصلتِ الأمَّةُ إلى هذا الحال من الضعفِ والهوان أغرت بنفسها الأعداءَ, فأخذوا يتداعَوْنَ من كلِّ جَنَبَاتِ الأرضِ ليفترسوا جَسَدَ الأمَّةِ المنهك, كما تَتَداعى الأكَلَةُ إلى قصْعتها, فأخذوا يستعمرونَ البلادَ والديار, بعد أن استعمروا القلوبَ والأرواح, فحكموا بلادَ المسلمينَ, ونهبوا خيراتِهَا, وسرقوا ثرواتِهَا, حتى إذا مضى على ذلكَ زمنٌ: انتبَهَ الصالحون, ففزعوا إلى السلاح, وأخذت كلُّ أمَّةٍ من أمم الإسلام تدفَعُ المستعمرَ عن بلادِهَا, وتطْرُدُ الغازيَ عن أرضها: حتى إذا تمَّ لهم الجلاءُ, واندحَرَ الأعداءُ, واستقلت البلادُ: فإذا بالأمَّةِ تستفيقُ بعد الغاشيةِ على تَرِكَةٍ من ركام السنينَ خلَّفَهَا المستعمر وراءَهُ, فلم تَتِمَّ للأمَّةِ فرحتُهَا, ولم تكتمل للأمَّةِ بهجَتُها حتى اكتشفت أنها أمام مشكلاتٍ عظام, لا قِبَلَ لها بها: فالبلاد مقسَّمَةٌ, والثرواتُ منهوبةٌ, والمعارفُ متخلفَةٌ. وفوقَ كلِّ ذلك فقد ترك المستعمر جمعاً غفيراً من أبناء المسلمين, ممن تربوا على عينه, وتحت إشرافه, أبدانُهُم بين المسلمين, وقلوبُهُم مع الكافرين, منهجُهُم النفاق, يأتونَ هؤلاءِ بوجهٍ, وهؤلاء بوجهٍ, يترقبونَ الفرصةَ التي ينالونَ فيها من الإسلام وأهله.
فإذا بالأمَّةِ المسلمة تنتقلُ من أزمةٍ إلى أزمةٍ, ومن مشكلةٍ إلى مشكلةٍ حتى إنَّ بعضَ الناسِ تمنَّوا عودةَ الاستعمارِ من شدَّةِ ما يجدونَ من ظلمِ المنافقينَ وطغيانِهِم.
أيها الإخوة: إنَّ قصَّةَ الإسلامِ مع أعدائِهِ لم تنْتَهِ إلى هذا الحد, فقد جاء العصرُ الحديثُ بما فيه: من التكتلاتِ الدوليةِ, والاتفاقياتِ السياسيةِ, والتنظيماتِ الاقتصاديةِ, وما رافق ذلك من الانفتاح العلمي, والتقدُّمِ التقني الذي أعطى لغير المسلمينَ قوةً يتحكمونَ من خلالها في مقدَّراتِ الشعوبِ الإسلامية, فيُعطون من شاؤوا, ويمنعون من شاؤوا, في الوقت الذي لم يكن للمسلمين في هذه النهضة العلمية دورٌ فعالٌ, وإنَّما يعيشونَ على هامشِ الحضارةِ الحديثة, يتكفَّفُونَ الناس فهذا يُعطيهم, وهذا يمنَعُهم, يحيونَ عالةً على المجتمع الدولي, فيأكلونَ مما يزرعُ غيرُهُم, ويلبسونَ مما يَخِيطُ غيرُهُم, ويركبونَ مما يصنَعُ غيرُهُم. وكأنَّهم لم يكونوا في يومٍ من الأيامِ سادةَ الدنيا, ومصدرَ العلمِ, وأمَّةَ الحضارة. فإذا حاول شعبٌ من الشعوب الإسلامية أن ينهضَ, ويراجعَ دينَهُ, ويعملَ لبلادِهِ: حاصرَهُ الكفارُ إما بالحرمانِ الاقتصادي, أو بالإبادةِ الجماعيَّةِ, في صورٍ من الكيد والحقد, والوحشيةِ والهمجيةِ التي لم يعرف لها التاريخُ مثيلاً. فها هُمُ اليومَ يُبيدُونَ شعباً مسلماً بكامِلِهِ في الشيشان على مسمعٍ ومرْأىً من الناس, بحجةِ الإرهاب. وبالأمسِ القريب عملوا على إبادة مسلمي كُوسُوفا, والبوسنةِ والهِرْسِك, بحجةِ التطهير العرقي, وقبل ذلك عندما غزوا أفغانستان. إنما يهدفونَ من كلِّ ذلك إطفاءَ نور الله تعالى, فلا يبقى للمسلمين ملاذٌ يلوذونَ به, حتى إذا يئسوا من أنفُسِهِم, وقَنَطُوا من رحمةِ ربهم لَحِقُوا بالكفار حتى يكونـوا مثلَهُم, وهذا مبلغُ ما يطلبه الأعداء، قال الله تعالى: ) وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (، وقال أيضاً: ) وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَـهُمُ الْـحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّـهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّـهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(.
أقول هذا القول وأستغفر الله تعالى لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله بيده الخيرُ, وإليه المشـتكى, وعنده المنتهى, ولا حولَ ولا قوةَ إلا به. أحمده وحده لا شريك له, وأشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أن سيِّدَنا محمداً عبده ورسوله أرسَلَهُ للناس كافة بشيراً ونذيراً, فهدى اللهُ بهداهُ من شاء, وأضلَّ عن سبيله من شاء, الخيرُ بيديه, والشَّرُ ليس إليه. سبحانه لا إله إلا هو الإله الحق المبين. أما بعد:
فاتقوا الله أيها المســلمون, واعلموا أنَّ ترديَ وضْعِ الأمـةِ اليومَ لا يُعفي أحداً من أن يقومَ بواجبِهِ حسب استطاعته, فهذا بالنفس, وهذا بالمال, وهذا باللسان, وهذا بالقلم. ثم اعلموا وتيقَّنوا أنَّ الدائرَةَ للمسلمينَ طالَ الزمانُ أم قصُر, وأن الله تعالى ناصرٌ أولياءهُ, ومُعزٌ جنده, ولو كره المشركون. فلو اجتمع على هذه الأمَّةِ كلُّ أُمَمِ الأرضِ فلن يستطيعوا إبادتها, فإن الله تعالى وعدها بالبقاء حتى آخرِ الدهر. ولكن الله تعالى بحكمته يتركُهُم لأعدائهم زمناً يفتكونَ بهم, ويأخذونَ بعضَ مافي أيديهم: حتى يُراجعوا دينَهُم, فإن عادوا إلى الحق, وأخذوا دينهم بقوةٍ جاءَهُم وعدُ الله تعالى بالنصر والتمكين، كما قال الله تعالى: ) وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَـهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَـهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (، وكما قـــال أيضاً: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّـهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّـهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (.
فاتقوا الله عباد الله, فهذا وعدُ الله تعالى لكم فأينَ الوفاءُ منكم, فاتقوا الله واستقيموا في أنفُسِكُم, وأدِّبوا من تحتَ أيديكم, واعلموا أن كلَّ معصيةٍ يقترفها أحَدُكُم إنما يؤخِّرُ بها وعْدَ الله تعالى عن الأمة, فالله الله لا يُؤتى الإسلامُ من قِبَلكُم, ولا يكن أحَدُكُم سبباً في جلبِ غضبِ الله تعالى.
أكثروا أيها الإخوة من الصلاة والسلام على خير البرية أجمعين.