· منذ أن جهر الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوته في مكة وهو وأصحابه يلقون العنت والظلم والاضطهاد من قريش.
· فقد لاقى المسلمون من ظلم قريش في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ما هو كثير لا يكاد يُطاق.
· ولما هاجر المسلمون مضطرين من مكة إلى المدينة : صادرت قريش أموالهم ودورهم، ولم يتركوا لهم شيئاً.
· حتى إن المهاجر من المســلمين يخرج من مكة متجرِّداً من كلِّ شيء إلا سلاحه، وما يستر عورته.
· فقد كان المشركون يجلسون للمسلمين في طريق هجرتهم، فإن كان ضعيفاً ردُّوه، وإن كان قوياً جرَّدوه من ماله.
· فهذه أم سلمة رضي الله عنها وقفوا لها ولزوجها وولدها في طريق هجرتهم ، ففرَّقوا بينهم ، فهاجر الزوج وحده، وأخذ أهلُهُ ولدها، وهى أخذها قومُها ، ومنعوها من الهجرة، فافترقت الأسرة.
· وهذا صهيب الرومي رضي الله عنه وقف له المشركون بطريق الهجرة، فلم يأذنوا له بالرحيــل إلا أن يدفع لهم ماله، فأعطاهم كلَّ ما يملك إلا نفسه.
· فما أن وصل المدينة مهاجراً لله ورسوله، لا يملك إلا سلاحه وثوبه، لقيه الرســــــول صلى الله عليه وسلم فقال: »ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى « .
· ولقد استقر عند العقلاء : أن من حق المظلوم أن يدفع عن نفسه، وأن يستردَّ حقه إن استطاع، كما قال الله تعالى: ) فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ( , فكان من حقِّ المسلمين المهاجرين أن يقتصُّوا لأنفسهم ممن ظلمهم، وأن يستردوا أموالهم وحقوقهم المسلوبة.
· ومن هذا المنطلق الشرعي المنطقي: شرع الرسول صلى الله علية وسلم في التعرض لمصالح قريش الاقتصادية بقطع الطريق على قوافلها التجارية المتردِّدة بين مكة والشام.
· فقد بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم قدوم قافلة محمَّلة من مكة إلى الشام بقيادة أبي سفيان، فخرج إليها فلم يدركها، فأرسل بعض أصحابة لمراقبة عودتها ، والرصد لها.
· وعند عودة القافلة محمَّلة بالأموال والمتاع، قوامها ألف بعير، وحُرَّاسُها نحواً من أربعين رجلاً فقط: نادى الرسول صلى الله عليه وسلم في أصحابه بالخروج للقافلة.
· فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم معه ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً مسرعين لملاقاة القافلة، معهم فرسان وسبعون بعيراً يتعاقبون عليها.
· فكان كلُّ ثلاثة يتعاقبون على بعير واحد ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم وعلي ومرثد بن أبي مرثد رضي الله عنهما يتعاقبون على بعير، فحاول علي ومرثد أن يتركوا البعير للرسول صلى الله عليه وسلم ، فأبي وقال: »لستما بأقوى على السير مني، ولستما بأحوج إلى الأجر منى« , وهكذا يضرب الرسول صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى والقدوة لأمته.
· ولما أحس أبو سفيان بالخطر على القافلة: أرسل إلى مكة يطلب الغوث والمعونة لحماية أموالهم ومتاعهم.
· فخرجت قريش في ألف رجل، مع مائة فرس، وعدد كبير من الجمال والأعتاد والسلاح والدروع، خرجوا بقيادة أبي جهل عمرو بن هشام.
· وفي هذه الأثناء تمكَّن أبو سفيان من الإفلات من الجيش الإسلامي، حين سلك بقافلته طريق الساحل، فنجا بنفسه وقافلته.
· وعندها أرسل إلى قريش أن عودوا إلى مكة فقد نجت القافلة، فوقع الخلاف في جيش مشركي قريش، منهم يرى العودة ومنهم من يرى المضي إلى بدر، ليعرف العرب مكانهم وقوتهم، فأراد هؤلاء أمراً وأراد الله أمراً آخر، فكان الرأي بالمضي إلى بدر للمقام فيها ثلاثة أيام رياءً وسمعة.
· وهـنا لم يعد للجيش الإسلامي خيار، فقد فاتتهم القافلة، وجاءهم ما لم يكن في حسابهم، فكان لا بد من المواجهة العسكرية بين فئتين غير متكافئتين، فاستشار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه، فكانوا على قلب رجل واحد في المضي للقتال، والمواجهة مع المشركين.
· وقام من المهاجرين المقداد بن عمرو رضي الله عنه فقال: »يا رسول الله امضِ لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، لكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون «.
· وقام من الأنصار سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال : »امضِ يا رسول الله لما أردت، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلَّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوَّنا غداً، وإنا لصُـبرٌ في الحرب، صُـدق في اللقاء « .
· وفي رواية قال سعد: » إني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم، فأظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبعٌ لأمرك، ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك « ، فتهلَّل عندها وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستبشر لهذه المقالات وقال: » لكأني الآن انظر إلى مصارع القوم « , وأخذ يشير إلى مصارع القوم، هذا مصرع فلان ، هذا مصرع فلان.
· وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يُعد صفَّه لمواجهة العدو, فكان سواد بن غزية رضي الله عنه قد خرج من الصف، فدفع الرسول صلى الله عليه وسلم في بطنه، فقال : » أوجعتني، فقال : استقد لنفسك، وكشف الرسول صلى الله عليه وسلم عن بطنه، فأخذ سواد يقبِّل بطنه، فقال : ما حملك على هذا، قال : قد حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك « .
· وعندها أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو ويبتهل ويلح في الدعاء، حتى إن رداءه ليسقط وأبو بكر رضي الله عنه يرفعه، ويهوِّن عليه، ويقول : » كفاك مناجاتك ربك «.
· ثم التقى الفريقان، وتواجه الصفَّان، التقى الكفر والإيمان، والخير والشر، والحق والباطل، فكانت الدائرة للمؤمنين.
· وتساقطت هامات الكفر والطغيان، وتدحرجت رؤوس الشرك والظلم في ساحة بدر، والتقى الفرقاء المختلفون، ينتقم بعضهم من بعض.
· حتى التقى بلال رضي الله عنه مع عدوه أمية بن خلف، الذي كان يعذبه في مكة في حرِّ الظهيرة ، فقال بلال : » لا بقيت إن بقيَ «، فأمعن فيه بسيفه حتى قتله.
· أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( .
^ ^ ^
· لقد تفانى المسلمون في هذه المعركة، قدَّموا مهجهم في سبيل النصر للإيمان، وهزيمة الكفر والطغيان.
· فهذا عُمير بن الحمام رضي الله عنه يلقي بتمرات كانت في يده، ويقول: » لئن أنا حييت حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة«، فتقدم فقاتل حتى قتل.
· واستبسل غلامان صغيران في المعركة، وانقضَّا على أبي جهل حتى قتلاه، ثم أجهز عليه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
· وجاء عكاشة بن محصن رضي الله عنه وقد انقطع سيفه، فأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم قطعة من حطب، فهزها في يده، فإذا هي سيف صارم من حديد أبيض.
· ولقد أيَّد الله المؤمنين بالملائكة، حتى إن رأس المشرك تُقطع، ويده تقطع، ولا يُدرى من فعل هذا.
· ولقد كان من نتائج هذه الغزوة أن أُسر من المشركين سبعون، وقُتل منهم سبعون، وقد كانت هذه المعركة بحق يوم الفرقان، أعز الله فيه جنده، وهزم فيه أعداءه.
· إن العامل الرئيس في نصر المسلمين يوم بدر هو الإيمان بالله، وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، » لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك«.
· فهل المسلمون اليوم الذين يتطلعون إلى النصر على أعدائهم، هل يحملون فعلاً الإيمان الصادق بالله تعالى ؟
· وهل هم فعلاً يحملون العزم على طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسيرون على هديه ؟ أم أن الإيمان قد ذبل في قلوبهم، وأصبحت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم موضع جدل ونقاش بينهم.
· اللهم وفقنا إلى هــداك، واجعــل عملنا في رضاك، وأيِّدنا بنصـرك يا عزيز يا جبار.